احد اهم عناصر الدولة واركانها هو عنصر السيادة الواقعية والفعلية على شؤونها الداخلية والخارجية، وامتداد سلطاتها على اراضيها كافة وبحرية تامة. ولا يكفي اعتراف القانون والمجتمع الدوليين بسيادة الدولة نظريا، اذا كانت هنالك تدخلات خارجية في شؤونها بحيث تقيد او تلغي سيادتها الفعلية وتنتقص منها.
العراق كدولة لديه السيادة القانونية والاعتراف الدولي بوجوده وكيانه، لكن من الناحية الواقعية يعاني من ازمة سيادة ناتجة بالأساس من ازمة وجود قيادة وطنية، بسبب ضعف الوظيفة البنائية للقيادة السياسية الحاكمة ولهذا يعد اكثر الدول تأثرا بالمحيط الاقليمي والدولي من ناحية التدخل في شؤونه الداخلية، واستخدامه منصة لتصفية الحسابات الدولية والاقليمية وحماية مصالح المتدخلين على حساب مصلحة البلد.
لا يمكن الحديث عن بناء دولة بلا سيادة، ولا يمكن بناء سيادة فعلية بلا قيادة وطنية تؤمن بالدولة ومصالحها وتقدمها على اي اعتبار او مصلحة خارجية، فالقيادة الوطنية تنتج السيادة الفعلية، وكلاهما يمثلان اهم ادوات الاستقرار السياسي التي تشكل رأس الحربة في اي تجربة بناء دولة مؤسسات فاعلة مستقلة. ولهذا تطرح تساؤلات، لماذا تنجح بعض المجتمعات بشكل أفضل من غيرها في بناء الدولة؟ وكيف يمكن للجهات الفاعلة، أن تدعم بناء الدولة الإيجابي؟ وماهي العوامل التي تؤدي إلى تطور إيجابي أو سلبي في عملية الدولة؟.
في الحقيقة، الجواب يكمن في القيادة السياسية الفاعلة التي تنظر في الحقائق الأساسية، ووضع التحليل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في سياق تاريخي، عند انجاز الاولويات داخل كل مجال من مجالات بناء الدولة، بغض النظر عن التجاذبات الخارجية والذاتية.
ان بناء الدولة هو العملية التي من خلالها تعزز الدول قدرتها على العمل، ويتم تحديد هياكل الدولة من خلال تسوية سياسية أساسية؛ وصياغة فهم مشترك بين القيادات السياسية الحاكمة، ينطوي على وضع مصالحهم ومعتقداتهم بطريقة معينة لإدارة السلطة السياسية، يقوم بشكل قادر على تفعيل وظائف الدولة والقيام بواجباتها الاساسية.
ينطوي بناء الدولة الايجابي على ثلاثة مجالات ضرورية، تعمل عليها القيادات السياسية من خلال تسوية سياسية، تركز على جعل الدولة تفي بثلاثة وظائف أساسية:
اولا: الأمن (التحكم في استخدام العنف).
ثانيا: ضبط الإيرادات (جمع الأموال وتوزيعها، لا سيما من خلال الريع، والضرائب والجباية والكمارك).
ثالثا: الحكم من خلال انفاذ القانون على الجميع دون استثناء.
وفي حال لم تنجز هذه الوظائف، فان التهديد الخارجي يعمل على تقويض الثقة في عملية بناء الدولة وتبديد اي انجاز او تقدم في تحقيق هذه الوظائف واي مكتسبات تتعلق في مسألة بناء الدولة، لان السيادة مسألة اساسية في ديمومة قوة الدولة وانجاز وظائفها ومهامها وبقاءها.
تتجسد ازمة السيادة الناتجة من ازمة القيادة في العراق، في مستويات ومصاديق عديدة منها، تعرض اقليم كردستان العراق الى قصفين، القصف التركي المستمر للأراضي العراقية في دهوك وزاخو والعمادية وقرى اخرى بشكل مستمر، اضافة الى تواجد قوات الجيش التركي في بعشيقة في الموصل، اضافة الى تعرض اربيل عاصمة اقليم كردستان الى قصف ايراني بالصواريخ، بحجة وجود معارضة كردية للبلدين، ما يؤشر تهديد حقيقي لسيادة الدولة واضعاف فرص بناء دولة عراقية فاعلة.
الموقف من القصفين، التركي والايراني، كشف ازمة القيادة الوطنية في العراق من خلال تموضعهم ازاء مشروعين، فشطر من هذه القيادات ندد وهدد ازاء القصف التركي بلغة التصعيد والمواجهة والتحرك والضغط على حكومتي بغداد والاقليم للرد والاتهام بالعمالة والتقصير والتردد، في حين الشطر الاخر لم يتفاعل ولم يصرح ولم يندد وكأن الاراضي المقصوفة ليست عراقية ولا حتى كردية، والعكس تماما حصل ازاء القصف الايراني لأراضي الاقليم، فالقيادات السياسية التي صدعت رؤوسنا بالوطنية والمقاومة لم تتحرك ببنت شفة ازاء هذا القصف، في حين تضاعفت مناسيب الوطنية والتنديد والوعيد لدى القيادات السياسية التي صمتت ازاء القصف التركي، في مفارقة غريبة وتناقض فاضح للولاءات الخارجية وازدواجية تكرس نهجاً قائما على المحسوبية والعمالة والزبائنية يعمل على تقويض الاجندات الوطنية.
عدم اتفاق القيادات العراقية على مشروع وطني سيعقد ويطيل ازمة السيادة في العراق لأنها غير متفقة على قواعد هذا المشروع، فبعضهم لا يعترف بأن العراق أمة بل جزء من أمة أخرى والبعض الآخر يعتبره تجمع لأثنيات وطوائف لا رابط بينها، كما أن القادة غير متفقين على أولويات البلد والمخاطر والتحديات التي تواجهه ومن هو الصديق والعدو، وفي كل أزمة ومواجهة ننصدم بالعجز عن تجاوزها بشكل موحد فأما يتم نسيانها أو توظف للمضاربة السياسية، والخلافات تسربت حتى إلى القضايا الرمزية، فمنذ أكثر من ١٩ عام فشلت القيادات في الاتفاق على علم جديد للعراق وفشلت في الاتفاق على نشيد وطني جديد، فما زال الشعب يردد نشيدا وطنيا غير عراقي، والمواطن لا يشعر بالوحدة إلا وفق منطق الشعارات التي تسوقها له القيادات السياسية الحاكمة لاستدامة بقاءها في السلطة.