الحروب والأنظمة الجيوسياسية والعالمية أمثلة على أهمية المكان، لطالما كانت الخرائط ضرورية للحرب الحديثة، لأنه من الأهمية بمكان تحديد مكان عدوك، وما هي احتمالات حركته، وأين ستضربه بشدة، معرفة مكان خوض المعركة ومتى تكون مطلبا رئيسا لقائد ناجح، اذ يؤدي (القصف الدقيق) وفقا لأهمية المكان وحيويته مدخلا لتفكيك قدرات العدو، تقليديا كان البقاء في سياق الاعتماد على الحصار والقتال التدريجي خطأ فادحاً من قبل الألمان النازيين في ستالينجراد والفرنسيين في معركة ديان بيان فو، كانت له عواقب وخيمة بعدم الاهتمام بمركزية المكان، كما إن قرار إدارة كلينتون الأمريكية في التسعينيات بتركيز التدخلات العسكرية في البلقان والتطهير العرقي الألباني للصرب في يوغوسلافيا السابقة، وقرار إدارة بوش شن الحرب على العراق شكل خسارة للرهان على السيطرة وتحقيق المصالح في هذه الاماكن، ما يعبر عن المنطق الذي لم يحسب حسابات لأهمية المكان في انجاح ظروف الحرب واستحكام التواجد الامريكي في هذه البقع المكانية في سياقات المقاومة والرفض للاحتلال وتحقيق المصالح المطلوبة.

في ذروة التنافس بين الإمبريالية منذ حوالي قرن من الزمان، تم تطوير نظرية جغرافية للسياسة والسلطة والجغرافيا السياسية من قبل رودولف كيلين، وايضا هالفورد ماكيندر، وفريدريك راتزيل، والفريد ماهان، كانت الدول التي تكافح من أجل السيطرة والتنافس تركز على المعايير المكانية فهي الاساس والشغل الشاغل لهذا التنافس بين القوى العظمى.

لقد أدى التقاء الخصائص الجغرافية وذروة التنافس الإمبريالي داخل أوروبا، الذي دفعه النازيون الألمان إلى نزع مصداقية فكرة الجغرافيا السياسية لفترة بعد الحرب العالمية الثانية، لكن أطروحة فريدريك جاكسون تورنر حول الأهمية الاجتماعية والسياسية للحدود الأمريكية وإغلاقها حوالي عام 1890 مثال مؤثر على الفكر الجيوسياسي، في الواقع كان من الواضح أن استراتيجيي الحرب الباردة من كلا الجانبين كانوا واعين جغرافياً للغاية في التفاوض والضغط على مناطق نفوذهم الإقليمية.

عادت الجغرافيا السياسية إلى الظهور المؤثر في السياسة بعد الحرب الباردة، في طفرة ثقافية متقدمة كجزء من جغرافيا ما بعد الحداثة، في عودة مباشرة إلى الجغرافيا السياسية الاستراتيجية الكلاسيكية كجزء من تأكيد جديد للقوة العالمية الأمريكية، المثال الأكثر بلاغة وأهمية برجينسكي مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر، بالنسبة إلى بريجنسكي، فإن السيطرة على اوراسيا هي (الجائزة الجيوسياسية الرئيسية) للولايات المتحدة، والسؤال الاستراتيجي الحاسم الذي يجب معالجته هو كيف يمكن استدامة الهيمنة على القارة الأوروبية الآسيوية؟، يتم البحث عن الإجابة من خلال النظر إلى أوراسيا على أنها رقعة شطرنج كبرى يُلعب عليها النضال من أجل السيادة العالمية.

يعتبر هذا النهج جيوسياسياً بشكل واضح، حيث لا يزال الموقع الجغرافي يميل إلى تحديد الأولويات العاجلة للدولة، بل النظام الدولي برمته، فالوحدات الرئيسية في هذا النظام هي اللاعبون الجيوستراتيجيون والدول التي لديها القدرة والإرادة الوطنية لممارسة السلطة أو التأثير خارج حدودها من أجل تغيير الوضع الجيوسياسي الحالي والمحاور الجيوسياسية، فالدول هنا تستمد أهميتها من موقعها المكاني الحساس.

العملية العسكرية الروسية في اوكرانيا مصداق واضح على ما ذكرناه، الروس هم اسياد الجغرافية، غزو اقليم القرم عام ٢٠١٤ وقبلها جورجيا عام ٢٠٠٨ والسيطرة على ابخازيا واوسيتيا الجنوبية ودخول القوات الروسية الى كازاخستان، كلها حيثيات جيوبولوتيكية لاستعادة روسيا لمكانتها الدولية ابان فترة مابعد الحرب العالمية الثانية عبر تنفيذ مقاربة استعادة الاملاك المسلوبة من الاتحاد السوڤيتي بعد العام ١٩٩١، لانها ستغير ملامح النظام العالمي برمته اذا نجحت روسيا بالسيطرة على هذه البقع الجغرافية المجاورة لها، وتشكل اوكرانيا عقدة اساسية اذا ما تجاوزتها روسيا فان مسألة حسم السيطرة على اوراسيا ستكون حاصلة، مجرد تصور تهديدات الامن الغذائي، وازمة المجاعات والطاقة، وازمة لجوء انسانية التي تحصل الان بسبب هذه الحرب، وارتعاب اوروبا من فكرة فقدان اوكرانيا دليل واقعي على اهمية المكان والنطاق الجغرافي جيوبولوتيكيا.

في هذا الفكر الجيوسياسي، تتشكل القيادة والكاريزما لممثلوا الدول من خلال مكانهم الجغرافي في العالم، فالمكان مهم في النظام العالمي، ومن هذا المنظور، فإن الدول وقدرتها على فرض السيطرة على الحدود وبسط سيادتها وشن الحروب تميل إلى الاختفاء عن الأنظار، اذا كانت ذات أهمية ثانوية في سياق الموقع المكاني.

...........................................

*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2022 Ⓒ

http://mcsr.net

اشترك معنا على التلجرام لاخر التحديثات
https://t.me/infomscr
التعليقات