حلقات نقاشية

مركز المستقبل ناقش دور الغزو الروسي لاوكرانيا في توازن النظام العالمي

    ناقش مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية وضمن نشاطاته الفكرية الشهرية موضوعا حمل عنوان (الغزو الروسي لاوكرانيا.. هل سيمهّد لإعادة توازن القوة للنظام العالمي)، بمشاركة عدد من مدراء المراكز البحثية، وبعض الشخصيات الحقوقية والأكاديمية والإعلامية والصحفية في ملتقى النبأ الأسبوعي الذي يعقد بمقر مؤسسة النبأ للثقافة والإعلام.قدم الورقة النقاشية الدكتور قحطان حسين طاهر أستاذ جامعي وباحث في مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية، وأدار الجلسة الحوارية حيدر الاجودي باحث في مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية وابتدأ حديثه قائلا:

"تعود أول أزمة دبلوماسية كبيرة بين روسيا وأوكرانيا لعام ٢٠٠٣ عندما بدأت روسيا في بناء سد في مضيق كريتش بإتجاه جزيرة (كوسا توسلا) الاوكرانية، الأمر الذي فسرته أوكرانيا بأنه محاولة لإعادة ترسيم الحدود بين البلدين من قبل روسيا، لكن تم فيما بعد التوصل الى تفاهم بين البلدين وتم ايقاف بناء السد، وشكلت الثورة البرتقالية مصدر توتر بين البلدين عندما نتج عنها فوز فيكتور بوشتينكو المقرب من الغرب برئاسة أوكرانيا وفي عام ٢٠٠٨ سعى الرئيس الامريكي آنذاك جورج دبليو بوش ضم كل من أوكرانيا وجورجيا الى حلف الناتو، الامر الذي قوبل برفض واحتجاج موسكو، مما عطل مسألة الانضمام الاوكراني لهذا الحلف، فعملت اوكرانيا على تحقيق الارتباط بالغرب من خلال اتفاقية للتعاون مع الاتحاد الأوربي.

مارست روسيا على اثرها ضغوطاً اقتصادية على كييف مما دفع الرئيس الاوكراني الفائز في انتخابات ٢٠١٠ يانا كوفيتش الى تجميد الاتفاقية الاوكرانية مع الاتحاد الاوربي، فاندلعت احتجاجات شعبية معارضة أطاحت بيانا كوفيتش الذي لجأ الى روسيا في ٢٠١٤، فقامت روسيا على اثرها بضم شبه جزيرة القرم التي كانت خاضعة لسيادة أوكرانيا مشغلة فراغ السلطة في أوكرانيا، وحدثت بعدها صراع تحول الى حرب بالوكالة في دونباس عام ٢٠١٥ بين الانفصاليين مدعومين روسيا وبين قوات اوكرانيا خسرت على اثرها اوكرانيا جزءاً من اراضيها الشرقية.

ثم عادت من جديد في عام ٢٠٢١ مسألة انضمام اوكرانيا الى حلف الناتو عندما طلبت موسكو رسمياً من واشنطن بعدم السماح لاوكرانيا بالانضمام الى الناتو مصرحة بأن ذلك يمثل خطاً احمر لموسكو، بعد انسحاب الولايات المتحدة المفاجئ والفوضوي من افغانستان حاول بوتين اختبار مواقف الغرب بشأن الخلاف الروسي الاوكراني خصوصاً ان موسكو بدأت ترصد ما تعتبره مؤشرات ضعف امريكي خصوصاً بعد الاضطرابات التي حصلت بعد خسارة ترامب في الانتخابات الامريكية الاخيرة، وكما ان بوتين بدأ يرى حالة انقسام في الغرب بشأن الدور القيادي للولايات المتحدة في العالم، بعد حالة انعدام الثقة بالدور الامريكي نتيجة سياسات ترامب وأخطاء بايدن خصوصاً فيما يتعلق بإتفاق الغواصات بين فرنسا واستراليا.

وفي خضم هذه التطورات رأت موسكو ان الفرصة مؤاتية لإجهاض طموح أوكرانيا بالانضمام للاتحاد الاوربي من خلال غزو أوكرانيا بحجة الرد على عدوان أوكراني استهدف منطقة روسية حدودية توجد فيها منشأة تابعة لجهاز الامن الفيدرالي الروسي، اذ اعترفت روسيا على اثرها باستقلال جمهوريتي دونيستك ولوغانسك الشعبيتين، وفي ٢٤ شباط اعطى بوتين الاوامر لقواته بغزو أوكرانيا متجاهلاً الدعوات الى التهدئة واللجوء الى الحلول الدبلوماسية.

ان هذا الحدث الكبير له دلالات وتداعيات كبيرة على مجمل الاوضاع في المنطقة وفي العالم اجمع، فمن الدلائل المهمة ان التفاعلات الدولية ما زالت محكومة بقانون القوة وان القانون الدولي ما زال عاجزاً عن ضبط سلوك الدول الكبرى ومنعها من تهديد الدول الضعيفة اذ ما قامت باتخاذ قرارات لا تتوائم مع مصالح الدول الكبرى.

وان الثقة المفرطة بوعود الحلفاء والاصدقاء في الدفاع عن الدول بوجه التهديدات من دول كبرى قد اثبتت خطأها مرة اخرى وذلك عندما ترك الغرب اوكرانيا تقاتل روسيا لوحدها رغم ان الغرب فقد اوكرانيا بمساندتها بوجه التهديدات الروسية.

وان العالم مقبل على تغييرات وان كانت غير واضحة المعالم لكنها تؤشر ان القطبية الاحادية لم تعد صارمة وانما بدأ التصدع يصيب بعض جوانبها في الوقت الذي بدأت دول مثل روسيا والصين تزداد نفوذاً وقوة لتشكل اقطاباً محتملة تنافس الولايات المتحدة في المستقبل القريب، وان الغزو الروسي لأوكرانيا قد يثير حماسة دول اخرى ترغب بالتمدد من خلال الاستيلاء على مناطق واراضي مجاورة بل حتى دول قد تكون غير قادرة على حماية اراضيها مثل الصين وتايوان وتركيا ومناطق في العراق وسوريا، وان العقوبات التي تم فرضها على روسيا قد تأتي بنتائج سلبية شاملة مناطق واسعة من العالم خصوصاً اوربا التي تعتمد على مصادر الطاقة الروسية وربما تنشأ أزمة اقتصادية هي الاسوء منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، اذا ارتفعت اسعار النفط ويشهد سوق القمح ارتفاعاً محتملاً كون روسيا وأوكرانيا يشكلان ٢٠٪ من المصدر القمح عالمياً.

وما يحدث من احداث كارثية ناتج عن سوء ادارة الازمات الدولية، بسبب غرور القوى الكبرى، وخطأ الحسابات الاستراتيجية للدول الصغرى، وعدم تفهم مخاوف الاخرين الامنية، والاعتماد في ادارة الازمات على قاعدة اللعبة الصفرية وهي القاعدة الذي اثبتت فشلها، وردود الفعل الدولية كالعادة تباينت بين الصمت والرفض والشجب والاستنكار".

ولإغناء الموضوع بالمزيد من الأفكار تم طرح السؤالين الآتيين:

السؤال الأول/ ما الدوافع والغايات الحقيقية للغزو الروسي لاوكرانيا؟.

السؤال الثاني/ ما النتائج والآثار المحتملة لهذا الغزو؟ وهل ستكون ردود الفعل العالمية بمستوى هذا الحدث؟

المداخلات

أسباب الغزو الروسي

الدكتور محمد مسلم الحسيني: "اختلطت الاوراق والتفاسير والتحليلات في شأن وأسباب ودوافع الغزو الروسي لأوكرانيا إلى درجة التعقيد والتباين والاختلاف. هذا التعقيد جاء من خلال اختلافات في وجهات النظر ومن خلال التصريحات المتناقضة للقادة والسياسيين ورجال الإعلام، فكل جهة تحلل وتنظر بما يناسبها بما يخص اسباب الأزمة وجذورها ونتائجها ومضاعفاتها، لكن لو تجردنا عن العواطف والانحياز سنخرج بتحليل بسيط وواضح واكيد لحيثيات المازق ومساره، بعد أن تفكك الاتحاد السوفيتي وتبعثرت جمهورياته انهار القطب المنافس للكيان الرأسمالي الغربي وتوجه العالم إلى منصة القطب الواحد الذي قادته امريكا والدول الغربية، هذا الإنهيار السريع للمعسكر الشيوعي وحلف وارسو كان نصر بتحصيل حاصل للمعسكر الغربي وحلف الناتو الذي بقى يلملم ويضم جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق المنشقة عن نسيجها والتي انضمت الواحدة تلو الأخرى عسكريا إلى الحلف الآخر واقتصادياً الى منظومة الاتحاد الأوربي، بقت روسيا تشاهد ولا تتحرك حتى تمدد حلف الناتو رويدا رويداً إلى حدودها فجاورت مدافعه وصواريخه موسكو.

كانت روسيا صامته طالما كانت تلك الجمهوريات لا تضم أقليات من المتكلمين بالروسية في نسيجها الاجتماعي من جهة وطالما لا توجد مناطق متنازع عليها معها، الصورة في أوكرانيا تختلف وتتباين في ثلاثة أمور ستراتيجية وهامة بالنسبة لروسيا:

أولها: أن الشعب الأوكراني خليط من الاوكرانيين المتكلمين بلغتهم الأصل والاوكرانيين المتكلمين بالروسية والمرتبطين بجذور تاريخية روسية. هذا الاختلاط عرض البلد وفي ظل الديمقراطية المتحزبة إلى انشطار نسيجي حصل بعد استهواء الغرب وتجاذب المصالح بينه وبين روسيا فحصل الانفصام وبدأ التطاحن الداخلي بين أبناء الشعب الواحد حد الحرب.

ثانيا: ميل الحكومة الاوكرانية ولاؤها للغرب ابعد هذا البلد أكثر فأكثر عن روسيا بل صار في صوب الغرب اغراءاته. هذا التحول جعل الروس يسترجعون شبه جزيرة القرم التي اهدوها لأوكرانيا إبان زمن الإتحاد السوفيتي السابق. لم تتقبل أوكرانيا استرجاع هذا الجزء من أراضيها بالقوة وبقت تتربص للفرصة المناسبة لاسترجاعها.

ثالثا: عزم أوكرانيا على الانضمام إلى حلف الناتو لأسباب هامة في حساباتها وهي أن تسترجع شبه جزيرة القرم من روسيا من جهة وتقضي على الحركة الانفصالية للمتكلمين بالروسية وتقمعهم دون أن تتدخل روسيا من جهة اخرى. هذا المشروع وهذه الأهداف التي ابتغتها أوكرانيا لم تغفل عنها روسيا، فهي لا يمكن أن توافق على انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو لأن هذا الانضمام سيجعل أسلحة الناتو مشرعة على أبواب موسكو من جهة وسيشل الناتو حركتها أن ارادت أن تتحرك وتحمي الانفصاليين أن عزمت كييف قهرهم من جهة أخرى، وفوق هذا وذاك فإن انضمت أوكرانيا لحلف الناتو فعلى روسيا أما أن تدافع عن شبه جزيرة القرم بالأسلحة النووية أو توافق مكرهة بإرجاعها لأوكرانيا المدعومة اطلسيا!.

من هذا المنطلق فليس أمام روسيا التي احتجت على انضمام أوكرانيا لحلف الناتو ولم يسمعها أحد أما أن تسكت على انضمامها وتنتظر المحذور وإما أن تتصدى عسكرياً قبل فوات الأوان، التصدي ويعني الحرب فهذا مر والسكوت ويعني التسليم للأمر الواقع وهو مر أيضا، فعليها أن تختار بين الأمرين وكلاهما أمر من الحنظل!. كان منطق العقل والحكمة أن تنطق الدبلوماسية بكلمتها الفصل فتضع خطة لإنصاف الحلول ترضي جميع الأطراف تحمي الاوكرانيين من ويلات الحرب وتزيل مخاوف الروس، لكن المشكلة، ومع الأسف، إن المسؤولين في جميع الأطراف المعنية بالصراع قد رفضت منطق الحكمة والعقل ولبست ثوب التعنت والاستخفاف والغرور، طوعا أو كرها، فحصل تسونامي الشرور ولا ندري كيف سينتهي".

قدرة روسيا على انجاز المهمة

الباحث الدكتور حميد مسلم الطرفي: "الاتحاد الروسي ومنذ مجيئ فلاديمير بوتين للسلطة قبل اثنين وعشرين عاماً دولة صاعدة لأنها وريثة الاتحاد السوفيتي القطب الثاني في العالم بعد امريكا منذ 1945 وحتى 1991، والابن الوريث يرنو دوماً ان يكون بمقام والده في الجاه والمال والقوة والسطوة مادام قد ورث عن ابيه ركيزتين اساسيتين عضو دائم في مجلس الامن الدولي له حق الفيتو وقوة نووية تعادل او تفوق غريمتها امريكا، أضف إلى ذلك أن فلاديمير بوتين شخصياً مشدود بقوة الى ذلك العهد كونه كان يشغل منصباً متقدماً في جهازه المخابراتي (كي جي بي)، ويحمل من صفات القيادة ما أهله لاستعادة روسيا جزءاً مهماً من عافيتها ولديه بعد 22 عاماً من الحكم فائض قوة.

بالمقابل أيضاً فإن امريكا لم تنس يوماً الماضي القريب لروسيا (الاتحاد السوفيتي) كغريم قوي، رغم أن روسيا قد تخلت عن عقيدتها الشيوعية وتحولت الى دولة رأسمالية تؤمن بالسوق الحر وتنافس الأسواق والاستثمار فلا تترك امريكا مناسبة الا وتُذكِّر بأن عدوها وعدو الغرب رقم واحد هو روسيا، ولم يحد من غلوائها تفكك الاتحاد السوفيتي ولا انحلال حلف وارشو وظلت تعمل جاهدةً لضم الدول التي كانت عضواً فيه الى حلف الناتو وتجري مناوراتها العسكرية على مقربة من روسيا.

روسيا القوة الصاعدة والصين عملاق الاقتصاد العالمي يدركان ان امريكا لم تعد كما كانت في 1991 وأن قوتها وهيمنتها في تنازل ومؤشرات ذلك المديونية العامة وانسحابها من العراق ثم انسحابها من افغانستان بطريقة مذلة ومشكلتها الاجتماعية الداخلية (السود والبيض) وتفاقمها في حكم الرئيس ترامب (2016-2020) فهي اليوم لا تملك من قوة الردع ما يمنع روسيا من تحييد اوكرانيا وتدمير بنيتها العسكرية. العملاقان يرغبان في تغيير النظام العالمي الجديد من احادي القطبية الى متعدد الاقطاب.

تصرفات الحكومة الاوكرانية الرعناء وخاصة إعلانها برغبتها في ان تكون دولة نووية، ولهاثها وراء الانضمام لحلف الناتو استفز الروس كثيراً فما يمكن اليوم قد لا يمكن غداً.

أما ماهي النتائج والآثار فهذا يعتمد على قدرة روسيا على انجاز المهمة وفرض شروطها فدوافع واهداف الغزو كبيرة فاذا ما تمكنت من تغيير النظام الحاكم في اوكرانيا ومنعت حرب العصابات الاستنزافية، او اجبرت زيلنسكي على التفاوض وفق الشروط الروسية فحينها ستضطر الدول الاوربية الى مراجعة عقوباتها واستخدام الدبلوماسية المرنة، وبخلاف ذلك ستكون هذه الحرب وبالاً على روسيا وحينها سيكون بوتين امام خيارات احلاها مر فإما إشعال حرب واسعة النطاق قد تكون الحرب العالمية الثالثة أو القبول بروسيا ضعيفة خاوية هدرت كل ما حققته في العشرين سنة السابقة أو تكون كذلك برئيس جديد غير بوتين بعد ان يتنازل او يجبر على التنازل".

العالم لا يزال في خطر دائم

الباحث حسن كاظم السباعي: "رغم مرور أشهر على انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان بشكل مفاجئ وعاجل؛ مما أدى إلى أن تتسلم جماعة لطالبان مقاليد الحكم في البلد، لا يزال المراقبون والمهتمون غير قادرون على تحليل الأمر وفهم خلفياته، ونفس الأمر وارد أيضا في الغزو الروسي لأوكرانيا؛ حيث تفاجأ العالم وهو في القرن الواحد والعشرين ومع تطور كل القوانين والمواثيق الدولية والبروتوكولات الإقليمية، ومع التجارب المريرة للحروب الماضية حيث ظن العالم أن زمن شنّ الغارات والحروب قد ولّى.

مع كل ذلك التطور والرقي كيف يمكن لدولة أن تعتدي على دولة أخرى تحت أي مبرر أو ذريعة، وهذا لا يختلف مع الحدث المشار إليه آنفا وهو تسليم مقادير الأمور لجماعة إرهابية معروفة بأفعالها في أفغانستان.

من هنا فإن عرفنا دوافع وغايات إهداء الحكم إلى طالبان فسنعرف أيضا الغاية الحقيقية للغزو الروسي لأوكرانيا، وماهي الوصفة التي يتم إعدادها خلف الكواليس، ومن أعدّها ولماذا؟.

وهذا يدل على أنَّ العالم لا يزال في خطر دائم وما المواثيق الدولية وإعلان حقوق الإنسان إلا حبر على ورق، ومن الممكن في أي لحظة من اللحظات وفي أي مكان من العالم أن يقوم الساسة بأي فعل من أجل أي هدف كان دون أي رادع أو وازع أخلاقي. وما الغزو الروسي إلا رمز للعقلية السياسية الحاكمة على العالم.

أما الآثار والنتائج المحتملة؛ فمن المتوقع أن تعين روسيا قريبا حكومة موالية لها في العاصمة الأوكرانية كييف، بل ومن المحتمل أيضا أن تضم الأراضي الأوكرانية إلى أراضيها وقد تتغير موازين القوى العالمية.

وأما ردود الفعل؛ فلا يزال الرأي العام العالمي في حال صدمة وانتظار، وفي الحال الحاضر لا يمكن أن نتوقع أي تحليل أو تكهن دقيق ما لم تتضح صورة الخلفية بعد".

القانون الدولي آخر من تفكر به الدول العظمى

الدكتور علاء إبراهيم الحسيني، أستاذ جامعي وباحث في مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات: "هناك اسباب تأريخية وحضارية وثقافية وهناك اسباب علها تكون شخصية تكمن في داء العظمة عند بعض القادة الروس وكذلك تأصل النظام الشمولي في هذا البلد منذ فترة طويلة منذ التسعينات منذ انهيار الاتحاد السوفيتي ولغاية الان خصوصا في فترة حكم الرئيس الحالي وهو بوتين الذي حاول ان يكرس النظام الشمولي الاستبدادي حتى على صعيد الدستور الروسي الذي تم تعديله مؤخرا لغرض تمكنه من تجديد ولاية اخرى، نجد ان هناك عدة اسباب تضافرت منها اقتصادية وأمنية واعادة قراءة الوضع العام العالمي وموازين القوى العالمية، تداخلت العديد من العوامل التي دفعت روسيا نحو معادلة الغزو، المشكلة هي ان القانون الدولي آخر من تفكر به الدول العظمى واول من تحاسب على من ينتهكه هي الدول الصغيرة و الضعيفة، شاهدنا قبل هذا الغزو غزو الولايات المتحدة لكثير من الدول الضعيفة مثل العراق وافغانستان وكذلك مساهمة الدول العظمى مثل فرنسا وغيرها بالتدخل بشكل مباشر بالملف السوري والليبي واليمني وغيرها، فكانت هناك الكثير من الاشكاليات والاعتداءات على سيادة الدول الاخرى والتدخل في شؤونها بشتى الذرائع التي تتذرع بها هذه الدول، فلو رجعنا بالزمن لرأينا ان الحالة العراقية شبيهه بالحالة الاوكرانية في بعض المواضيع وكيفيتها "ان الولايات المتحدة الامريكية جعلت القانون الدولي خلف ظهرها وغزت هذا البلد ودمرت بنياه التحتية وانهت وجود النظام السياسي واستبدلته وكانت تتصرف تصرف اشد رعونة واكثر من روسيا وانها الزمت جميع الدول ان تطرد جميع الدبلوماسيين العراقيين من كل الدول وكأنها شرطي عالمي او قوى عالمية وكأنها هي من تضع قواعد عالمية وتطبقها على الجميع وبدون استثناء، وروسيا اليوم قد تريد ان تحاكي هذا الدور او تحاكي هذه السلطة المنفلتة الخارجة عن اطار او اطر القانون الدولي، لو رجعنا الى ميثاق الامم المتحدة هذا الميثاق الذي يضع بمقاصد الامم المتحدة في المادة الثانية هو ان تلتزم جميع الدول بأن تحل مشاكلها بالأساليب السياسية وتبتعد عن التهديد بالقوة او استعمال القوة في العلاقات الدولية لكن سيبدو انه اخر ما تفكر به الدول العظمى هو الوسائل الدبلوماسية لحل مشاكلها الذاتية او المشاكل التي ترى انها تهدد نفوذها وكيانها ومؤسساتها.

روسيا بلد يشهد مشاكل كثيرة من حيث انه يحكمه نظام ديكتاتوري لكن اتصور ان هناك تفاهمات خفية بين الدول العظمى او ان روسيا اكيد حسبت حساب هذه العواقب وهذه المشاكل التي سوف تسبب لها هذه العملية مشاكل اقتصادية ومالية ومشاكل على مستوى الطاقة والا ان يخطو بوتين خطوة بهذه الخطورة وبهذا التوقيت بالتحديد رغم التهديدات الغربية الامريكية التي سبقت عملية الغزو بأسابيع اتصور ان هناك لا شيء خفي، اما هناك اتفاق بينهم او صفقة معينة او تقاسم بينهم للكعكة بين امريكا وروسيا او غيرهم من الدول، لذلك تخلت اغلب الدول عن اوكرانيا ولم تقدم لها الدعم الا الدعم الوجيز الدعم العسكري وما شابه ذلك، روسيا الان صادراتها مستمرة من الغاز والنفط وغيرها".

الإمبراطورية الروسية القلقة

الشيخ مرتضى معاش: "روسيا هي الامبراطورية القلقة على طول التاريخ لأن اراضيها شاسعة جداً وصعب السيطرة عليها، حيث كانت دائما امبراطورية معرضة للغزو ولم تكن لديها في معظم الأحيان نزعة استعمارية، والمُستعمَر يكون في قلق دائم يعيش الخوف، معظم الدول الغربية حتى الدول الصغيرة فيها مثل هولندا والبرتغال كانت دول استعمارية، كذلك بريطانيا التي هي اكبر مستعمر والامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس وحجمها الجغرافي ليس بحجم روسيا.

فروسيا تعيش القلق لأنها تعرضت لغزو من جهات مختلفة من غزو نابليون الى غزو هتلر، وسقطت حكومات هذه الامبراطورية كما سقط الحكم الشيوعي وتفكك الاتحاد السوفيتي، والان هو هناك خوف وقلق من التفكك بسبب الطموحات الغربية، بالاضافة الى ان التفكير الروسي هو تفكير تقليدي جداً ومحافظ جداً سياسياً ودينياً واقتصادياً، لذلك لم تنمو روسياً نمواً سياسياً ولا اقتصادياً، ودائما تعيش حالة من الانكفاء الداخلي وتملك ثروة هائلة جداً من الموارد الاقتصادية الطبيعية النفطية والغازية والمعادن، ولكن حجمها الاقتصادي جداً ضئيل بالقياس مع حجمها الجغرافي والجغرافية السياسية الموجودة.

البعض يتصور ان روسيا هي في موقف مهاجم لكن الواقع انها في موقف مدافع ليس لديها الإمكانات اللازمة على ان تكون قوة هائلة في النظام العالمي حتى وان كان لديها سلاح نووي، ورأينا ذلك في تفكك الاتحاد السوفيتي فلا تستطيع ان تقود النظام العالمي، حتى الصين تشبهها في هذا الاطار من ناحية انها لا تقدر على ان تكون مستمرة في التقدم العالمي وتنسحب بشدة الى الخلف وتبني جداراً حول جغرافيتها كجدار الصين.

كما ان الصراع الاوكراني الروسي هو صراع ايديولوجي في داخل الغرب نفسه بين جناحين الجناح اليميني المحافظ والجناح الليبرالي، ولاحظنا في قضية ترامب كيف انه كان قريبا الى بوتين وسعى الى بناء تحالف والى تفكيك الحلف الاطلسي وتأسيس نظام عالمي جديد بالتحالف مع روسيا لان ترامب يأتي من مؤسسة محافظة يساندها بعض المسيحيين، بالاضافة الى ان بوتين يدعمه المسيحيين الارثوذكس فقوة بوتين هي التحالف بين العسكر والمسيحيين في روسيا وبالنتيجة هذه القوة الهائلة التي يصنعها التيار المحافظ التقليدي الذي يجمع بين امريكا وروسيا قد يؤدي الى قيادة جديدة للمسيحين في العالم في مقابل تحجيم الليبراليين الموجودين، فقادة العالم الليبراليين يشنون باستمرار هجوما على روسيا فيما يسموه بالتيار الشعبوي وهو نوع من انواع التسقيط. والتضليل الإعلامي والايدلوجي.

البعض لاحظ ان الليبراليين قاموا بهذه الهجمة مثل الثورات المخملية السابقة التي بدأت في اوكرانيا وجورجيا وبيلاروسيا كان هدفها هو اسقاط آخر معاقل التيار اليميني المحافظ في روسيا وادخالها في اللعبة الليبرالية العالمية التي بالنتيجة ان سقطت روسيا سقط الاخرون بأجمعهم، نرى ان بايدن رجع بقوة لإعادة بناء الحلف الاطلسي الذي يعتبره الروس اشد تحالف يشكل خطورة علىيهم، وهذا الصراع الموجود بين التيارين اليميني المحافظ والليبرالي ظهر بشكل واضح في غزو اوكرانيا، البعض يعتبر ان التيار الليبرالي اخطر بكثير من منافسه اليميني المحافظ لان الأخير عنده حدود وقواعد ثابتة يعيش بالحداثة الصلبة، على عكس الليبرالي الذي يعيش الحداثة السائلة حيث لا يوجد اي حدود او قيم وترويج لقيم جديدة مثل المثلية والاباحية والانفتاح المطلق على كل شيء بلا حدود باسم الفردية والحرية الشخصية.

الليبراليون لم يكونوا صادقين او ملتزمين بقضايا الديمقراطية والعدالة وحقوق الانسان، فالديمقراطية مجرد سلاح يستخدموه لتطويع الاخرين واتهام بوتين بالاستبداد هي قضية تطويع بوتين ولو ان بوتين دخل من بوابة التيار الليبرالي وبقى مستبدا ومنتهكا لحقوق الانسان لقبلوا به كما حدث مع دول اخرى، بالنتيجة بوتين وروسيا لا يملكون القوة على مواجهة التيار الغربي لان المشكلة الاقتصادية كبيرة في روسيا وليس هناك اي تقدم اقتصادي في روسيا لأنها كالعراق دولة ريعية اما اوكرانيا فهي محمية من قبل الغرب".

تقليص الطموح الامريكي

حامد الجبوري، باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية: "ان مسألة غزو روسيا على اوكرانيا من اجل دفع الولايات المتحدة الامريكية وعدم وجودها هي وحلف الناتو، وان اوكرانيا تنضم الى حلف الناتو في سبيل الوقوف امام روسيا وهي لديها خوف من روسيا باعتبار ان اكبر صادرات الطاقة من روسيا تمتد عبر اوكرانيا والتي تريد ان تنضم لحلف الناتو في سبيل الحفاظ على الصادرات النفطية (الغاز والنفط) ومن اجل ديمومة الغاز، روسيا غزت اوكرانيا من اجل تقليص الطموح الامريكي في محاصرتها، والمسألة اقتصادية لان ٤٠٪ من صادرات الغاز تمر عبر اوكرانيا، حالياً اذا فرضت الدول الاوربية عقوبات على صادرات روسيا فسترتفع الصادرات النفطية كذلك الغاز، ومما يؤدي الى تحول الطلب من النفط والغاز الى وقود آخر كالفحم اي سيحدث تضخم عالمي ومن ثم ركود اقتصادي واستمرار ارتفاع النفط هو ارتفاع مرحلي بحكم هذه التوترات الجيوسياسية وارتفاع اسعارها سيؤدي الى تظاهرات في الدول غير النفطية وسيتعثر الانتاج وتصدير النفط العالمي بالنتيجة اختلال ميزان الطاقة العالمي وتعثر وكبح النمو الاقتصادي".

العالم الجديد قائم على التعددية القطبية

الدكتور خالد العرداوي، مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية: "اذا ما اخذنا قضية الدوافع المباشرة ومحاولة روسيا في منع الانضمام الاوكراني الى حلف الناتو ومحاولة الغرب واوكرانيا الانضمام الى الحلف، وان هذا الانضمام يمثل خطا احمر وان اوكرانيا تعتبر الخاصرة الرخوة لروسيا، وبالنتيجة تمدد حلف الناتو الى اوكرانيا يهدد هذه الخاصرة الرخوة، ولكن الدوافع البعيدة مرتبطة بالقيادة العالمية وان روسيا والصين بدأوا يشعرون ان قوتهم الذاتية خصوصاً بعد فترة كبوة روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي استغرقت وقتا، وان روسيا استعادت بناء نفسها واستعادت قوتها بالتالي اصبحت دولة تتمدد في كل القارات، وقد كررت تجربة الغزو اكثر من مرة ومرت عليها بسلام مثل قضية جورجيا وبالنتيجة ارادت اثبات وجودها وابراز فكرتها بأن عالم احادي القطب قد انتهى، والعالم الجديد قائم على التعددية القطبية، وكما ارادت بناء قواعد جديدة للنظام الدولي.

ولكن باعتقادي ان هذه الرؤيا الروسية وهذا الاعتقاد الروسي تم التمهيد له غربياً والغرب كان يعرف الطموحات الروسية واستشعرت امريكا خطورة الوضع الروسي في ليبيا والعراق وسوريا وحتى في قضية افغانستان واسيا الوسطى بل حتى في اوربا نفسها، حيث ان اوربا بدأت تشعر بالإمكان الخروج عن المظلة الامريكية ولذلك ارادت روسيا ربط اوربا بها من خلال مشاريع الطاقة وهذا الامر لم يكن يسر الادارة الامريكية وكان يشعر بتجديد مصداقية القيادة العالمية لذلك كان لابد من ان تكون هناك ازمة معينة، وبؤرة التوتر الاساسية التي على امريكا ان تستثمرها في اثبات قيادتها الى العالم هي اوكرانيا باعتبارها نقطة الضعف الاستراتيجي للامبراطورية الروسية طوال سنوات عديدة عبر تاريخها، وان امريكا حققت هذه الفرصة وعظمتها بشكل كبير حتى وصلت الامور الى نقطة اتخاذ قرار الغزو، لكن يبدو ان بوتين اندفع بجنون اكثر من اللازم وكان بإمكانه ان يتخذ هذا القرار ويتوقف وينتظر الى لحظة تاريخية اخرى، وبالنتيجة هو اتخذ القرار وان امريكا سوف تستغل الفرصة بالكامل لتحجيم روسيا وارجاعها الى وزنها الحقيقي، وان الاتحاد السوفيتي كان اكثر قوة من روسيا ولكن كان نقطة ضعفه الاساسية هي القناعة الشعبية ونموذج الحكم انهار واصبح فاقد لقيمته في الاتحاد السوفيتي، والجانب الاخر هو الاقتصاد الذي تسبب في انهيار الاتحاد السوفيتي من الداخل لان الاقتصاد كان ضعيف على الرغم ان القوة والاسلحة كانت موجودة ولكن الانهيار كان من الداخل، وامريكا سوف تستغل هذه الفرصة وسوف تستغل النقطة القاتلة الاقتصاد حتى تحجم روسيا بشكل كامل وتضعفها بشكل كبير وحتى تخلق لها مشاكل لتفكك روسيا وتحاول من خلال هذا الحصار ومن خلال محاولة صنع الرواية بأن روسيا اصبحت جزء من محور الشر وبوتين هو طاغية من طغاة العالم الثالث، كل هذا سوف يجعل النموذج الروسي يفقد زخمه وان روسيا بدأت تحشر في زاوية ضيقة بعد تنفيذ الحصار عليها وحتى اقرب الحلفاء لها تركيا والصين هي اول من بدأ تنفيذ عقوبات الحصار خشية من العقوبات الغربية، وحتى المجر وافقت على اخراج روسيا من نظام سويفت المالي، وان المستفيد الاول من كل هذا هي امريكا لانها سوف تجدد قيادتها عالمياً وقبضتها على حلفائها جميعاً، والخاسر الاول هو الشعب الاوكراني وروسيا كنظام حكم لما له من اثار ستترتب عليها".

وفي ختام الملتقى تقدم مدير الجلسة حيدر الاجودي، بالشكر الجزيل والامتنان إلى جميع من شارك وأبدى برأيه حول الموضوع.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/ 2001–2022 Ⓒ

http://mcsr.net

اشترك معنا على التلجرام لاخر التحديثات
https://t.me/infomscr
التعليقات