تكشف الأزمة الأوكرانية عن متغيرات مرتقبة وحتماً لن تكون جذرية في هيكلية النظام العالمي الحالي، فلا زالت روسيا تطمح بمواصلة حلمها في إستعادة مكانتها الدولية التي إحتلتها طيلة اكثر من اربعة عقود ونصف بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية، فكانت القطب الثاني المنافس للولايات المتحدة الأمريكية، وبعد إنهيار الإتحاد السوفيتي السابق في بدايات عقد التسعينيات من القرن العشرين، برزت القوة الأوحد في تفاعلات النظام الدولي ونقصد بها الولايات المتحدة الأمريكية ومن دون منافس لها لتكون صاحبة التفرد الحقيقي بالقرارات التي يتم إتخاذها تحت مظلة الأمم المتحدة التي اضحت إنعكاساً لرؤى وتوجهات السياسة الأمريكية في تلك المرحلة.
ومع وصول فلاديمير بوتين الى الكرملين كزعيم روسي يحلم بهدف إستعادة الأمجاد الروسية ودورها الفاعل في المجتمع الدولي، نجد بإن الخطط الموضوعة والأهداف المرسومة لم تحيد عن تلك الأهداف الستراتيجية العليا للروس، فهي تعمل بكل جهدها للوصول الى ذلك الهدف والمتمثل بمزاحمة القوة الأكثر والأكبر والأفضل، ولا يغيب عن فكر المحللين في هذا الجانب ضعف القطب الأوحد في معالجة كل القضايا السياسية التي تحدث هنا او هناك بسبب رغبة بعض الأطراف والقوى في تبوء مكانة عالمية تزاحم بها الدولة رقم واحد في العالم، فاستثمرت حالة الضعف التي انتابت القوة الاكبر، فما بين لحظة تفرد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم وتآكل قوتها من جهة اخرى نتيجة محاولة بعض القوى الدولية للحصول على مكانة متميزة في النظام الدولي كعودة لتعددية الاقطاب، فتبدل موازين القوى يمكن ملاحظته بشكل جلي في تراجع القوة الأولى عالمياً لصالح قوى اخرى كالصين وروسيا وبعض القوى الصاعدة في ميادين الإقتصاد والمجالات العسكرية والتكنولوجية المتطورة، الأمر الذي يسهم في تغيير شكل النظام الدولي من احادي القطبية الى متعدد الأقطاب.
وتشكل أزمة اوكرانيا بداية ذلك التغيير، إذ لم يعد ممكناً إدارة العالم وفقاً للنظرة الأمريكية التي استفردت بالتحكم منذ لحظة إنهيار الإتحاد السوفيتي، وربما تكون اللحظة الفارقة التي انتظرها الروس ومن قبلهم الرئيس بوتين تكمن في توجيه الأنظار نحو الدب الروسي الذي استثمر فرصة الضعف الذي انتاب المعسكر الغربي وإبتعاده شيئاً فشيئاً عن مناطق النفوذ الطبيعية لروسيا، فكانت اوكرانيا هي الطعم الذي اصطاد به الروس الغرب، فإيهام الغرب ومن قبلهم الناتو بإن اوكرانيا قاب قوسين او ادنى من الإنضمام ومحاصرة روسيا إنما هي خديعة كبرى صدقها الكثيرون من الذين عاشوا الحلم الأمريكي وانهم اقرب مما يتصورون من الدخول رسمياً في حلف الناتو والإقتراب اكثر من ساحة النفوذ التقليدية للروس، ولكن لنرى ما هي الحقائق، فالغرب وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية تخلوا عن اوكرانيا وتراجعوا عن التهديدات السابقة التي اوهمت اوكرانيا بإن روسيا لن تقدم على التفكير بمهاجمة اوكرانيا وليس الزحف نحو عاصمتها كييف كما يحدث الآن ومن جميع المحاور لتبدو اوكرانيا اوهن واضعف من ان تدافع عن نفسها بعد الوعود الكاذبة التي اطلقها الحلفاء الغربيين قبل مدة قليلة من ذلك.
فالغرب عموماً يبدو اضعف من ناحية القوة من الرد على روسيا، ومن ثم استثمر الروس ذلك الأمر الذي بدأت ملامحه بالتشكل لاسيما بعد الإنسحاب التدريجي للقوات الأمريكية من افغانستان، ما يعني فرصة الإنقضاض على ما تبقى من سمعة لها في مناطق كانت محجوزة سلفاً لهم، اي بمعنى آخر، تأليب الرأي الداخلي الأمريكي ضد اي محاولات اخرى يقوم بها الأمريكان في اي مكان من العالم من اجل التصرف كقوة منفردة تتحكم بإدارة الصراعات ولها الكلمة الفصل فيها، ولذا نرى بإن الإنسحاب الأمريكي من كابول كان له تداعيات سلبية على القوة رقم واحد في العالم، وهو الذي مكن الروس من إستثماره لإستعادة مكانتها التي كانت عليها قبل تفكك الإتحاد السوفيتي.
ويبدو بإن نظريات القوة التي تستحوذ على التفكير الروسي وذلك من خلال السيطرة على مراكز التحكم بالعالم عبر قلبه المتمثل بدول الشرق الأوربي لا تزال ماثلة وشاخصة، وهي تهيأ الفرصة للسيطرة على العالم بأسره.
ومن هنا تأتي قوة الروس في إستثمار إعتماد اوربا على الغاز الروسي وبنسبة كبيرة جداً لتجعل الأرضية صلبة وورقة مساومة تستعملها في إدارة الصراعات لصالحها، ولذلك فإن تشغيل خط انبوب الغاز نورد ستريم ٢ هو بمثابة حجر الزاوية الذي تمثله الخطوة الروسية تجاه اوربا بأجمعها، وعليه كانت الخطوة المتوقعة من الحلفاء الأوربيين ومن قبلهم الأمريكان إزاء المانيا بضرورة إيقاف تشغيل الخط لتفويت الفرصة على الروس بإستخدام تلك الورقة المهمة ضدهم، ومن اجل فك شفرة ذلك الموضوع، أستبق بوتين الجميع بتوقيعه مع الصين إتفاقاً لتأمين نقل الغاز الى السوق الصينية لتعويض وقف الإمدادات المتوقعة من تصدير الغاز الطبيعي الى اوربا، وبهذا تكتمل فصول التعاون الروسي الصيني إزاء المواجهة الأمريكية الأوربية، فالطرفين تجمعهما غاية إزاحة الولايات المتحدة الأمريكية عن التحكم بالعالم ومن ثم الأخذ بنظر الإعتبار القوة الروسية والصينية ومحاولاتهما المستمرة للعودة بقوة لعرش التحكم عبر بوابة الإقتصاد هذه المرة.
وتعي روسيا جيداً الدروس السابقة التي تلت تفكك الإتحاد السوفيتي والتي وفرت الفرصة المواتية للولايات المتحدة الأمريكية من التفرد بقيادة العالم، ولذلك فهي تقيم التواجد الأمريكي هنا وهناك وربما تركز بشكل اكبر وبصورة جلية في مناطق المجال الحيوي لها كما في الإقتراب الأمريكي من حدودها في اوكرانيا، وهي بذلك تشكل تهديداً مباشراً للأمن الروسي ومحاولات الروس على الإرتكاز على تفوقهم النوعي في المجال العسكري التقني والسيبراني في مواجهة القوة العسكرية الأولى في العالم ونقصد بها الولايات المتحدة الأمريكية، ومن اجل الإحاطة بالتصعيد الروسي إزاء اوكرانيا وصولاً للتدخل العسكري المباشر حالياً، يمكن القول بأن الحملة الروسية تهدف الى؛ بناء معادلة جديدة لتوازن القوة مع الولايات المتحدة الأمريكية وذلك بسبب تعدد المشاكل التي انتابتها مؤخراً، فضلاً عن التحديات الداخلية التي تعاني منها، كل ذلك اسفر عن تحيز روسي لإستثمار تلك الأزمات وتراجع الاولويات بالنسبة للولايات المتحدة وبالخصوص بعد إنسحابها المهين من أفغانستان، وهذا ما جعل التقديرات الروسية تصب في هذا الإتجاه الذي تعاني منه الولايات المتحدة الأمريكية، لتكون اللحظة المناسبة التي انتظرتها روسيا لتوصل رسالة مفادها بإن روسيا قادمة لإحداث التوازن المطلوب مع القوة رقم واحد ومن ثم الحصول على المكاسب المرجو الحصول عليها نتيجة ذلك الضعف الأمريكي بالمقارنة مع قوتها سابقاً، وهذا ما يعزز من دور روسي عالمي جديد يتلائم مع حجم وقوة روسيا حالياً.
ويمكن عد التحشيدات العسكرية الروسية على طول حدودها بإنها إستعراض لقوتها المتنامية إزاء الولايات المتحدة الأمريكية ووسيلة ردع صريحة لقوات الناتو التي كانت تأمل بالإنقضاض على ما تبقى على القوة الروسية عبر الوصول المباشر مع حدود روسيا والتوسع شرقاً والإقتراب من مجالات روسيا الحيوية والذي تمثل اوكرانيا حدود التماس المباشر معها، لذا كانت الأزمة الروسية الاوكرانية كاشفة لكل معطيات الصراع وتقاسم النفوذ وعودة روسيا بشكلها الجديد لتعيد امجادها كقوة عظمى تنافس الولايات المتحدة الأمريكية في إدارة العالم.