الفيدرالية في العراق.. أسلوب لضمان الوحدة الوطنية

 ياسر خالد عبد بركات*

من المعلوم أن الدول والشعوب على مر العصور تتباين وتختلف من حيث اختلاف عناصر القوة والضعف والبيئة المحيطة بها. كما أن مثل هذا التباين ينعكس بشكل أدق على المستوى الفكري- الاجتماعي الذي يميز هذه الشعوب عن غيرها.

والمعروف أن الاختلاف بمختلف أشكاله سمة مجتمعية لا يمكن تجاهلها أو إنهاء وجودها بأي وسيلة أو ذريعة سواء قومية أو وطنية أو أيديولوجية بل حتى دينية. فالتباين العرقي والديني واللغوي والاقتصادي أمر ملم به في كل مجتمع لكن الفرق بين هذا المجتمع وذاك هو قدرة مؤسساته على تحقيق الانصهار والتعايش بين مختلف تلك الاختلافات.

وهنا تقع على الدولة مسؤولية تحقيق هذا الانصهار والتعيش السلمي والتعاطي الايجابي معه وفق الرؤية الوطنية التي تلبي حاجات المواطنين كافة وتشبع رغباتهم وتضمن لهم حقوقهم الدستورية والتمثيل النسبي في المجالس التشريعية وحق المشاركة السياسية في صنع واتخاذ القرارات. وكذلك الحال مع العراق الذي يشهد ولادة جديدة ذات مؤسسات جديدة ودستور جديد ينتظر منه أن يرضي جميع الأطياف السياسية وتحقيق آمال وطموحات الشعب العراقي.

واحد ابرز القضايا المطروحة على أجندة الدستور العراقي القادم هو مسألة (الفيدرالية). إذ نص قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية الذي صدر في 8 آذار 2004 في المادة الرابعة منه على أن (نظام الحكم في العراق جمهوري اتحادي فيدرالي، يجري فيه تقاسم السلطات بالاشتراك بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان والمحافظات والبلديات. ويقوم النظام الفيدرالي الحكومي على أساس مبادئ الجغرافية والحكم الصالح والفصل بين السلطات وليس على أساس العراق والقومية والمذهب).

فالعراق كغيرة من البلدان، يحمل خصوصية وطنية يتفاعل معها تعدد اللهجات واللغات والعقائد والقيم والأعراق والتقاليد ضمن وطن واحد، وهذه الخصوصية تحتاج إلى تجربة ديمقراطية تؤسس لدولة الإنسان والقانون دولة المساواة والتكافؤ والمواطنة الصالحة وبالتالي الحكم الصالح.

هذه التجربة تؤتي نتائجها في ظل أعطاء تمثيل شعبي لمختلف هذه الفئات والأعراق يضمن حقوقهم ضمن دستور موحد ويتمثل ذلك بتحقيق مبدأ اللامركزية السياسية التي هي السمة المميزة لمبدأ الفيدرالية التي تتمتع بنوع من المرونة ضمن مفهوم الاتحاد.

إذن هناك إشكالية رئيسية تنبع من أن العراق كغيره من البلدان الأخرى يحمل خصوصية التنوع العرقي والطائفي المتمثل بوجود أقليات متعددة دينياً ولغوياً وثقافياً تحتاج إلى قدر من تمثيل حقوقها في ظل حكومة قادرة على التعاطي الايجابي مع مسألة الفيدرالية.

وتبعاً لما تقدم، يمكن صياغة فرضية أولية يمكن الاستفادة منها لتحقيق نتائج هذه الدراسة المنصبة على أقامة وتحقيق مبدأ اللامركزية السياسية (الفيدرالية) في العراق سبيلاً لضمان الوحدة الوطنية، وفرضية الدراسة تنبع وتقوم على (أن هناك علاقة طردية موجبة بين تحقيق اللامركزية (الفيدرالية) وضمان الوحدة الوطنية) تفيد بضمان حقوق الأقليات ضمن إطار التمثيل الشعبي للمجالس والمحافظات، إذ كلما كان هناك قدراً واسعاً من الاستقلالية النسبية الممنوحة لحكومات الإقليم في إدارة شؤونهم الداخلية وتسيرها بالشكل المطلوب كلما أمكن تحقيق الوحدة الوطنية وتعزيزها. على إن ما نقصد به هنا من الاستقلالية النسبية ليس بمعنى الانفصال كما يتوهم الكثيرون ويعدونه سبيلاً لإقامة وتأسيس دولة مستقلة ومنفصلة ولكن ما نعنيه هنا هو تحقيق التوافق والتوازن وإعطاء مجال أوسع للتعبير عن قدرة القائمين على إدارة الإقليم المعين في إدارة شؤونهم المحلية باعتبارهم هم الأقدر على معرفة الاحتياجات الحقيقية لكل محافظة أو إقليم وتنسيق العمل داخلها:-

وتبعاً لما تقدم. سوف يتم تقسيم محاور الدراسة إلى:-

1. ماهية الفيدرالية.

2. لماذا الفيدرالية.

3. شروط واختصاصات النظام الفيدرالي.

4. الأكراد والفيدرالية.

5. مستقبل الفيدرالية في العراق.

ماهية الفيدرالية:-

بالغرم من تعدد التعريفات المتناولة لمسألة (الفيدرالية) ورغم الخلط الكبير الذي يعتري بعض المفكرين والباحثين حول ماهية الفيدرالية شكلاً ومضموناً، وحول ما يتصوره البعض خطأً من أنها تعد سبيلاً للانفصال والاستقلال، ألا أنه وبالرغم من هذا التعدد والتنوع في الآراء والتي يمكن أن تضفي نوعاً من الصعوبة حول وضع تعريف دقيق شامل للفيدرالية، يمكن تناول بعض التعاريف فيما يخص الفيدرالية ومن وجهات عديدة منها:-

إن الفيدرالية تعني المشاركة السياسية والاجتماعية في السلطة من خلال رابطة طوعية بين شعوب وأمم وأقوام أو تكوينات بشرية من أصول قومية وعرقية مختلفة أو لغات أو أديان أو ثقافات متباينة وذلك في اتحاد طوعي يوحد بين كيانات في دولة واحدة أو نظام سياسي واحد، مع احتفاظ الكيانات التي توحدت بهويتها الخاصة من حيث التكوين الاجتماعي والحدود الجغرافية وصلاحيتها الإدارية.

فيما تعرف الفيدرالية أيضاً بأنها نظام سياسي تتقاسم وتوزيع فيه الحكومة المركزية صلاحياتها الدستورية وواجباتها الإدارية مع الأقاليم المختلفة التي تكون الدولة، وبذلك فإن الأقاليم المختلفة تأخذ بعض مهمات وصلاحيات حكومة المركز (كالكانتونات في سويسرا أو المناطق التي تمتلك صلاحيات، وإمكانيات منبثقة قانونياً على صعيد الدولة).

من هذا التعريف يتضح، أن الفيدرالية في حد ذاتها وسيلة وليست غاية الغرض منها في الأصل تنظيم تقاسم السلطات المركزية الإدارية والقانونية مع السلطات المحلية، لكي يحصل التوازن في توزيع الحقوق والواجبات والمسؤوليات الوطنية.

ولأغراض الدراسة، يمكن وضع تعريف ملائم للفيدرالية، يمكن الاستفادة منه على صعيد الأخذ به كنموذج لتطبيق الفيدرالية في دولة ما، فالفيدرالية تعني باختصار نظام لامركزية إداري يقوم على توزيع النشاط الإداري أو الوظيفية الإدارية بين حكومة مركزية وفروعها الإقليمية من جهة وهيئات مستقلة منتخبة من جهة أخرى على أن يبقى للحكومة المركزية نوعاً من الأشراف العام.

ويقصد بهذا التوزيع (توزيع السلطة) بين كل من الحكومة المركزية والهيئات المحلية في المناطق التي تتألف منها البلاد، أن يكون هناك تقسيم في العمل الإداري بين كل من هاتين السلطتين. وهذا التقسيم في العمل يخضع لعدة اعتبارات منها توافر سلطة أو مرجع تنفيذي قادر على التوفيق بين جميع المتطلبات الضرورية للإقليم أو المحافظة.

وهكذا يقوم في الدولة اللامركزية مستويات في السلطة:- سلطة الدولة أو السلطة المركزية وسلطات المناطق المحلية أو السلطات الثانوية وفي ظل اللامركزية تتمتع الهيئات المحلية بصلاحيات تشريعية وتنفيذية يتحدد نطاقها بطبيعة المهام والواجبات الملقاة على عاتقها.

واحد أهم الأسباب التي تدعو إلى الأخذ بنظام اللامركزية، وجود مناطق معينة تربط بين سكان الواحدة منها روابط خاصة نابعة عن خصوصية ظروفهم ومصالحهم المشتركة، وبعد السلطة المركزية عن هذه المناطق، وتعقد مشكلات الأخيرة وتعدد حاجاتها، ويمكن أن يضاف إلى ذلك توسع مهام الدولة بحيث يصعب عليها إدارة جميع أنحاء البلاد بعبارة موجزة يمكن القول: إن اللامركزية يقصد بها وجود درجة من تفويض السلطة ممنوحة إلى التنظيمات الإدارية في الدولة لتنظيم شؤونها الداخلية (الاقتصادية والسياسية والاجتماعية).

وفي مجال تطبيق هذا المفهوم على مستوى وحدات الجهاز الفيدرالي للدولة، فان نظام اللامركزية الإدارية (الفيدرالية) تكون لها أهمية كبيرة بالنسبة لتنظيم العلاقة التي تنشأ بين التنظيمات التي يكون لها سلطات في مثل الوزارات وبين الفروع التابعة لها في المناطق المحلية المختلفة.

2. لماذا الفيدرالية:

إن من أهم الأسباب والمبررات الموضوعية التي تدعو إلى الأخذ بنظام اللامركزية (الفيدرالية) هو صنع التعددية والمشاركة الفاعلة الحقيقية في الحياة السياسية بصورة ديمقراطية وعادلة بعيداً عن التفرد في الحكم وحكر السلطات بيد شخص أو مجموعة معينة تمارس ضغوطاً على الحريات السياسية وتصادر الحقوق.

ذلك لان حكم الأقلية أو مجموعة من الأفراد ربما يقود إلى المزيد من الأخطاء والمشاكل والظلم، بينما تؤدي المؤسسات في ظ حكم الجماعة دورها أفضل وبصورة أكثر عدالة في ظل مؤسسات قانونية ووجود رقابة دستورية.

وهنا تتوقف درجة نجاح اللامركزية الإدارية (الفيدرالية) على مدى رجوع الإدارات المحلية أو الأقاليم إلى الوزارات للتصرف في الموضوعات المختلفة المتعلقة بتلك المحليات أو الأقاليم، إذ تصبح الفيدرالية مطلباً رئيسياً وحقيقياً عندما تبلغ وسائلها وهي تنظيم تقاسم السلطات كما اسلفنا وهناك الكير من العوامل التي تؤشر بشكل واضح على درجة تفويض السلطة وتطبيق نظام اللامركزية الإدارية (الفيدرالية) في المحافظات أو الأقاليم أو بالنجوحات الإدارية والتي تدعو إلى الأخذ بالنظام اللامركزي الإداري منها على سبيل المثال، درجة الحاجة إلى السرعة، في اتخاذ القرارات، ودرجة استقرار ونجاح وفاعلية المجالس واللجان المحلية، ودرجة الرغبة في أنجاز الأعمال المطلوبة بعيداً عن التعقيدات لصانعي القرارات في الحكومة المركزية، وظهور الكثير من تعقد العلاقات في وحدت الجهاز الإداري للدولة.

في الواقع، إن هناك أنواعاً مختلفة للفيدراليات في العالم، منها الفيدرالية القومية القائمة على أساس أعطاء تشكيل سياسي يستند على مبدأ التعدد والتنوع في اللغات والأديان والثقافات، يكون له الحق والحرية في تنظيم نفسه وإدارة إقليمية وبما يؤدي انفصال هذا الإقليم عن الدولة المركزية وتشكيل دولة منفصلة ومستقلة.

يضاف إلى ذلك، فيدرالية من نوع آخر تقوم على أساس إعطاءها حكماً ذاتياً مستقلاً بمعنى أن لا تخضع في سلطاتها وفي أدارتها إلى الحكومات المركزية أي إن تكون قراراتها مستقلة تماماً عن السلطة المركزية في الدولة، وهذا النوع من الفيدرالية ربما يقود مستقبلاً إلى تقوية الشعور والانفصال عن الدولة المركزية، انطلاقاً من شعور أبناء ذلك الإقليم بالغبن وإهدار الحقوق وعدم الاعتراف بالخصوصيات التاريخية لهم.

لكن ما ينبغي أن نشير إليه هنا في هذه الدراسة هو نوع الفيدرالية اللامركزية الإدارية القائمة على أعطاء الأقاليم أو المجالس المحلية في المحافظات نوعاً من السلطات الإدارية التي تتميز ببعض المرونة في اتخاذ القرارات فيها يخص تلك الأقاليم أو المحافظات، وهو ما يمكن أن يتلاءم مع خصوصية أكراد العراق في ظل حكومة مركزية تستطيع أن تستجيب وتتجاوب مع حاجات الأكراد ومطالبهم، إذ أن الواقع الجغرافي لإقليم المناطق الشمالية يسمح بإعطاء مثل هذا النوع من الفيدرالية القائمة على الإدارة اللامركزية في تلك الأقاليم.

وتطبيق سياسة اللامركزية الإدارية يحقق الكثير من المزايا لعل أهمها أنها ممارسة فعلية لمبدأ الاستشارية السياسية الذي يقوم على أساس اشتراك المواطنين لإدارة شؤونهم والمشاركة في صنع القرار بأنفسهم وهذا ما يعبر عنه في السياسات الحديثة (بالديمقراطية) فإنها تعبير عن نظام متكامل في الدولة فيه سلطة مطلقة للفرد يستمدها من شخصية في السيطرة والتحكم في اتخاذ القرارات، فان النظام الديمقراطي السياسي يمنح الفرد السلطة عن طريق الآخرين الذين يمنحونه هذه السلطة، ولذلك فهي ذلك النظام الذي يستطيع من خلاله المواطنون تحقيق أهدافهم عن طريق الحكم بواسطة الشعب، ومن أجل الشعب.

ولأجل تطبيق وتحقيق الدولة المركزية لمبدأ الفيدرالية ينبغي أن تكون هناك شروط واختصاصات للنظام الفيدرالي تستطيع الدولة من خلالها تحديد شكل الفيدرالية الملاءمة لها.

3. شروط واختصاصات النظام الفيدرالي:

للفيدرالية عدة شروط ومعايير تتطلب ما يلي:-

1. وحدة إقليم الدولة.

2. وجود هيئات محلية مستقلة عن هيئات الدولة لتسيير شؤون المناطق.

3. تتمتع هذه المناطق بدرجة من الاستقلال المالي لتمكينها من سر احتياجاتها والإنفاق على أعمالها.

4. تتمتع الهيئات المحلية بصلاحيات تشريعية وتنفيذية يتحدد نطاقها بطبيعة المهام والواجبات الملقاة على عاتقها.

جميع هذه الشروط تتطلبها الفيدرالية والتي تعتبر بنفس الوقت الشروط الناجحة لقيام فيدرالية قائمة على أساس لامركزي أداري يؤمن ضمان كافة الحقوق للأقاليم والمحافظات.

إما اختصاصات النظام الفيدرالي فيمكن حصرها في:-

1. للحكومة الفيدرالية حق عقد المعاهدات الدولية وعقد الصلح مع الدول الأخرى.

2. للحكومة الفيدرالية حق تنظيم الموازنة العامة للدولة وتوزيع الثروات.

3. وحدة العلم.

4. وحدة التمثيل الخارجي والسفارات تكون بيد الحكومة الفيدرالية.

5. وحدة القوانين والقضاء تكون بيد الحكومة الفيدرالية، ولا يمنه من أن تكون للحكومات المحلية في الأقاليم دساتير مناسبة تتناسق مع دستور الدولة الاتحادي.

6. وحدة المؤسسات العسكرية تكون بيد الحكومة المركزية.

7. تكون باقي الأمور الإدارية للإقليم متروكة لشؤون الإقليم والمجالس المحلية المنتخبة.

إن سبب اخذ ونجاح بعض الدول في تطبيق الفيدرالية هو قدرتها على فهم محتواه الحقيقي وفهم طبيعة الاختلافات الموجودة في البلد الواحد، ومحاولة احتواء النزاعات والاضطهاد الذي ينشأ نتيجة ذلك الاختلاف، وهنا تبرز مشكلة القومية على بقية الاختلافات، إذ أن تجانس فئة معينة من الشعب في اللغة والقومية والانتماء يجعل من عملية التلاحم والاستقرار أكثر ضماناً فيما لو تعايشت مع بقية الأجزاء المكونة لهذه الدولة وبالتالي يمكن الاستفادة منها في تعميق وتعزيز الوحدة الوطنية، وهنا يثار تساؤل مهم هو هل أن الفيدرالية بمحتواها الحقيقي يمكن تطبيقها في العراق؟

وقبل الإجابة على هذا التساؤل لابد من معرفة الأساس التاريخي لمصطلح الفيدرالية في العراق.

إن مصطلح الفيدرالية ليس بالجديد في تاريخ العراقي السياسي، إذ تشير أغلب الدراسات والبحوث المتخصصة من أن مسألة الفيدرالية كانت موجودة ومطروحة على أجندة بعض الأحزاب الوطنية التي نشأت وتشكلت مع نشوء الدولة العراقية الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى، والتي كانت تطرح الفيدرالية تحت مسميات مختلفة كحق تقرير المصير أو حق الشعب في تقرير مصيره والاتحاد الفيدرالي، أو النظام الفيدرالي في العراق. وقد اقترن هذا المصطلح بتسميات أخرى كالديمقراطي التعددي الموحد، كحل للمسألة القومية الكردية في العراق عندما كانت هذه القضية أي القومية الكردية تشكل عامل غير مستقر ومتأزم في البلد.

وارتباطً مع الواقع الراهن الذي يعيشه المجتمع العراقي نجد إن شعارات الفيدرالية هي التي تطفو على الساحة العراقية وتأتي ضمن أولويات الدستور العراقي الدائم الذي تجري كتابة بنوده من قبل لجنة صياغة الدستور.

كما أن التاريخ النضالي للأحزاب الكردية يشير إلى أن سير هذه الأحزاب في طريق المطالبة بحقوقهم المشروعة بإقامة مظلم فيدرالي لامركزي هو مطلب قومي إدارة لامركزية للإقليم من قبل أشخاص لهم تاريخهم السياسي النضالي. وقد استمرت مطالبة الأكراد بهذا المطلب القومي (الفيدرالية) وشهدت مرحلة السبعينات أوج النزاعات والصراعات بين الأكراد والسلطة المركزية من قبل حزب البعث السابق وتم في حينه احتواء الأزمة التي انتهت بتدخل بعض زعماء العرب مثل جمال عبد الناصر وآخرين وحصول الأكراد على الحكم الذاتي 1974.

وخلال عقد الثمانينات، قام النظام السابق بقصف المدن الكردية شمال العراق في معارك حلبجة والأنفال وقتل الأطفال والنساء والشيوخ ودمرّ المنازل، وعلى أثر الأوضاع السياسية في العراق بعد حرب الخليج 1991 تم انفصال الأكراد عملياً وتشكيل كيانات سياسية مستقلة نسبياً عن الحكومة المركزية. وبعد سقوط النظام السابق في عام 2003 اظهر الأكراد رغبتهم مجدداً في الدعوة التي تبني الدستور الجديد إلى فيدرالية قومية تضمن حقوقهم وتمكنهم من الإدارة الكفوءة للأقاليم الشمالية وبما يضمن الوحدة الوطنية للعراق.

إن الفيدرالية هي أحد أهم الأنظمة الديمقراطية- الدستورية الناجحة والمنتشرة على صعيد العالم ببلدان مختلفة ومتنوعة إلى درجة كبيرة. وهي تقود إلى حلول عادلة لحاجات أساسية واجتماعية وتاريخية عاشها أي مجتمع.

حُكِمَ بالحكم المركزي منذ أول نشوء الدولة مثل العراق الذي عاش مركزية الدولة المطلقة سياسياً واقتصادياً وإدارياً رغم الاختلافات الموجودة بالمجتمع العراقي قومياً ودينياً ولغوياً. ذلك أن الفيدرالية حي أحدى نتاجات التجارب البشرية العالمية لتأسيس الكيانات الوطنية المتآلفة والمتحدة التي أثبتت وجودها في تنظيم السلطات اللامركزية والإقليمية بموجب نظريات مختلفة وظروف اقتصادية مختلفة وتطبيقات سياسية مختلفة.

والمؤسف أن الحكم المركزي في العراق قد أدى بصورة أو أخرى إلى عدم الاعتراف بالخصوصيات القومية والثقافية وتحمل المسؤوليات التي كان يجب أن تتحملها القوميات والانتماءات الرئيسية الأصغر. بل حل محل ذلك هيمنة من ناحية واضطهاد ونزع لأصول المواطنة أو الحقوق الأساسية لمجاميع من المواطنين من ناحية أخرى، وهو ما ابعد العراق خصوصاً خلال حكم البعث عن الديمقراطية وتنوعاتها المختلفة. ويشمل ذلك بصورة أحق مدى تاريخ الدولة بمختلف الأنظمة التي عاشها (ملكية- جمهورية- وحزبية) لأنها كانت تعتمد على الحكم المركزي، في مختلف النظم، وبسبب أخفاق الحكم المركزي بتحقيق التطور والعدالة على مدى سنين طويلة وخصوصاً بالنسبة للأكراد في العراق، فأنه لابد من إيجاد حل شامل يحقق لمختلف مكونات وقوميات المجتمع نقلة نوعية في نظام الحكم وتوزيع المسؤوليات بقدر معقول من اللامركزية في إدارة الدولة في الكثير من جوانبها ومستلزماتها. وهنا لابد من معرفته رؤية أنفسهم لمسألة الفيدرالية؟

4. الأكراد والفيدرالية:

لقد طرحت الحركة الكردية (الفيدرالية) كحل للمشكلة الكردية في العراق بعد أن قامت قوات التحالف الغربي بإعلان المنطقة الكردية في العراق منطقة آمنة للأكراد في عهد صدام، وذلك على آثر هزيمة قوات صدام وانسحابها من المنطقة الكردية في خريف 1991، فتسلمت الأحزاب الكردية إدارة شؤون المنطقة وأجرت انتخابات عامة ربيع عام 1992 تمخض عنها مناطق البرلمان الكردي والحكم في المنطقة بين الحزبين الكرديين الرئيسيين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني.

وفي شهر تشرين الأول 1992 انعقد في مدينة صلاح الدين مؤتمر الأحزاب وتجمعات ومنظمات وشخصيات مستقلة في حركة المعارضة العراقية في المنفى وقد تم الاتفاق بعد نقاشات مطولة على مبدأ الفيدرالية التي طالبت بها الأحزاب الكردية كافة وتم الاتفاق عليها من حيث المبدأ، وتمت المصادقة عليها في البرلمان الكردي مجدداً، كما تمت موافقة الأحزاب المعارضة العراقية لهذا المبدأ لأكثر من مرة وأخرها في آخر اجتماع عقد في لندن قبل سقوط النظام بأشهر قليلة وتحديداً في شهر سبتمبر 2002.

وبعد أن تمت الإطاحة بالنظام العراقي في نيسان 2003 وإظهار الولايات المتحدة الراغبة في بقاء العراق موحداً، قبل الأكراد، عن رضا أو عدم رضا المشاركة في الدولة العراقية الجديدة، ودخلوا في نقاشات وحوارات جرت (داخل مجلس الحكم العراقي المؤقت آنذاك) وطرحوا قضية أن الرابطة التي يجب أن تربطهم بالدولة الجديدة هي فيدرالية (قومية وليست إدارية) واستندوا في ذلك إلى توافر عدة معطيات منها:-

1. إن العراق متعدد اثنياً ودينياً وطائفياً، وإن هذا التنوع يشكل عامل تفريق وليس توحيد، لهذا من الواجب أن يكون لكل تشكيل في هذا التوزيع الحرية في تنظيم نفسه وإدارة إقليمية.

2. المبررات الجغرافية، فهناك فاصل طبيعي بين سكان الاثنية العربية وسكان الاثنية الكردية، بوصفها الاثنيتان المتماسكتان الرئيسيتان في العراق. دهوك وأربيل والسليمانية كردية بشكل شبه تام، وهناك مناطق كردية تقع في محافظة ديالى والموصل وكركوك، أما العرب فهم يسكنون المناطق المنبسطة والهضاب والصحاري.

وفي الوقت نفسه الأكراد إلى أن تلك المبررات لا تزيد من فرص الانفصال اللاحق وذلك لوجود عدة مبررات أخرى تدفع إلى استمرار علاقتهم بالدولة العراقية الجديدة هي:

1. المبررات الاقتصادية: حيث أن هناك اعتمادية متبادلة وواضحة بين السكان الأكراد والعرب في الإقليمين المختلفين.

2. الوضع الاستراتيجي: فإنشاء دولة كردية مستقلة غير ممكن استراتيجياً وأن حدث عكس ذلك فأنه سيكون إقليم هزيل استراتيجياً.

3. التراث المشترك فهناك علاقات مصاهرة وتبادلات ثقافية بين العرب والأكراد.

4. الدين المشترك.

وفي ضوء هذا الطرح الكردي أو الرؤية الكردية للفيدرالية ومطالبتهم بها على أساس قومي وليس جغرافي، فأنه بدون أدنى شك يثير الكثير من الجدل والمشاكل خصوصاً بالنسبة (لإيران وتركيا وسوريا) ذات الأقليات الكردية أيضاً مما يدفعها إلى التدخل المباشر في الشؤون الداخلية العراقية وعلى نحو واسع مما هو حاصل الآن بحجة حماية ودعم الامتدادات الفئوية (التابعة لها) في العراق.

ومما تقدم، يمكن القول أن رسم الخريطة السياسية الجديدة للعراق في ضوء الدستور العراقي المقبل الذي تجري صياغة بنوده يستند على مضمون وشكل الفيدرالية المقبلة واختيار الأفضل منها الملاءمة لواقع المجتمع العراقي.

وعلية، فإن الفيدرالية التي يمكن أن تجمع وتوحد بين مختلف الأقليات في المجتمع العراقي وتلبي حاجات وطموحات الأقلية الكردية دون إنكار الحقوق المادية والمعنوية لهم والتضحيات الجسيمة التي قدموها والنضال المشرف الذي دافعوا من أجله ضد النظام السابق، هي الفيدرالية القائمة على أسس جغرافية بمعنى آخر فيدرالية لامركزية إدارية ضماناً دستورياً لحقوق الشعب الكردي.

إن نظام الإدارة اللامركزية يشكل القاعدة الأساسية للأنظمة القائمة على الفيدرالية المبنية على  الأقاليم أو إدارة المقاطعات أو الولايات أو المحافظة لتمييزه بمميزات ومبررات عديدة تساعد على أقامة وإرساء حكومة تتسم بالشفافية والإدارة الناجحة لتحقيق مطالب المجموعات السكانية الممثلة لها حسب مناطقها ووحداتها.

وهنا نسلط الضوء على المميزات التي يتسم بها النظام اللامركزي الذي يعتبر الوجه الآخر للفيدرالية في هياكلها التنظيمية والإدارية.

وتبر أهمية الفيدرالية واللامركزية للعراقيين، بعد بدء أول خطوة للمسار الديمقراطي من خلال انتخاب مجالس المحافظات في العراق بصورة عامة وانتخاب المجلس الوطني في إقليم كردستان.

وتأتي أهمية الإدارة اللامركزية بالنسبة لإقليم كردستان العراق من خلال إسناد إدارة مصالح ومصير سكان تلك الأقاليم والوحدات الإدارية الممثلة بالمحافظات إلى المجالس المنتخبة والممثلة لتلك الكيانات. ولهذا فإن أول ما يقترن به النظام الفيدرالي واللامركزي أنه مقترن مع النهج الديمقراطي وهو ضامن رئيسي لتحقيق التنمية والتطور للمجتمعات، وهو "نظام كفيل بتوفير الفرصة لسكان الإدارات المحلية الصغيرة والبلديات في الإطلاع على مجريات سير عمل الإدارات والتأثير فيه".

وضمن هذا المفهوم فإن الميزات التي يتميز بها النظام الفيدرالي والنظام اللامركزي هي ميزات مهمة وتحتل الأولوية ضمن اهتمامات الدولة العراقية الجديدة وذلك لأهميتها الإدارية والسياسية، والتي يُراد منها جملة من الإنجازات منها:-

1. دعم الديمقراطية وضمان حقوق سكان الوحدات الإدارية الصغيرة (داخل إقليم كردستان: إذ تساهم هذه الميزة في زيادة دورهم في المساهمة في إدارة مناطقهم وإيصال صوتهم ورغباتهم وحاجاتهم إلى الحكومات المحلية والتي بدورها تحولها إلى سياسات وإجراءات عملية بموجب خطة مناسبة بغية تنفيذها.

2. التوازن والتوافق بين المصلحة العامة والمجموعات العرقية والدينية: بما أن النظام اللامركزية يطبق في الأنظمة الديمقراطية، فأنها تهيئ الفرصة لسكان في مختلف الوحدات الإدارية الكبيرة والصغيرة في التعبير عن رغباتها في اختيار ممثلين يتم اختيارهم ضمن عملية انتخابات ديمقراطية ولابد للفائزين في الانتخابات من العمل على تلبية الحاجات الأساسية للسكان وتقديم أفضل الخدمات لهم وبالتالي دعم السكان لهم ولإداراتهم وتعزيزها ومن خلال الهيكل الهرمي الإداري للدولة فإن ذلك يؤدي إلى زيادة الأمن والاستقرار وتعزيز الوحدة الوطنية.

3. التوازن بين مصلحة الدولة ومصلحة الوحدات الإدارية الدنيا: بما إن أسلوب الإدارة اللامركزية قائم على أساس دستوري وقانوني، فأنه يمكن أن يسهم في تنظيم العلاقات بين المستويات الإدارية المختلفة وتقسيم الحقوق والواجبات فيما بينها وكذلك الصلاحيات ونمط العلاقة بين الأعلى والأدنى وبالعكس وضمن الإطار اللامركزي يمكن أن يحدث نوع من التنسيق والتكامل والتعاون بين المستويات الإدارية المختلفة بصورة طوعية من دون أكراه أو فرض أو تشدد.

يضاف إلى ذلك، إن أسلوب الإدارة اللامركزية يحقق مزايا اقتصادية مهمة منها على سبيل المثال، الاستغلال الأمثل للموارد المحلية (البشرية والطبيعية والمالية) لصالح التنمية المتوازنة بين المناطق المختلفة بغية تلبية حاجات السكان المحليين، وخلق تنمية حقيقية تزيد من زيادة أهمية الإقليم أو الوحدة الإدارية ومساهماتها في الدخل المحلي وتحقيق مستوى معاشي جيد للسكان تكون موازية للمستوى العام في البلد، كما أن مثل هذا النظام يمكن أن يخلق دعامة أساسية للنهوض الاقتصادي والاجتماعي للمحافظات أو الحكومات المحلية تأتي عن طريق التنافس الايجابي بين بقية الأقاليم التابعة للدولة ذلك أن أسلوب الحكم الفيدرالي أسلوب يبني مؤسسات لكل من السلطات المركزية بعض منها قائم بذاته وبعضها الآخر متداخل مع بعضه بعضاً بحيث تحمي هذه المؤسسات حقوق وهويات مختلف المجموعات والمناطق الجغرافية ضمن إطار قومي موحد.

من جهة أخرى، يساعد نظام الإدارة اللامركزية في تخفيض حدة النزاعات والتوتر بين المناطق والأقاليم المختلفة:لأسباب قد تنشب في كثير من الأحيان داخل الإدارة الإقليمية أو المحلية الواحدة نزاعات أو توترات أو صراعات بين سكانها تتعلق بمشاكل تخص استغلال وملكية الأراضي أو على الموارد الطبيعية الأخرى فتكون السلطة ضمن أسلوب الإدارة اللامركزية عادة أكثر فعالية في مثل تلك النزاعات والمشاكل والقضاء على أسبابها.

كذلك تؤمن اللامركزية زيادة مشاركة سكان المناطق والأقاليم في وضع السياسات واتخاذ القرارات، إذ تؤسس اللامركزية نظاماً أساسياً يسهم في تعزيز دور الإدارات الفرعية للمناطق الصغيرة صعوداً إلى الأعلى ومن ثم زيادة إلمام الناس في مناطقهم في أمور الإدارة والسلطة والسياسات والاستراتيجيات وإتاحة الفرصة لهم للإطلاع وإبداء الرأي، والمشاركة في الأنظمة الخاصة، فإن اللامركزية الإدارية تخلق الثقة لدى السكان وتضعهم أمام الشعور بالمسؤولية وأداء الواجب والالتزام.

وبما أن اللامركزية هي النظام النابع من الأنظمة الديمقراطية التي تخضع لحكم المؤسسات الدستورية والقانونية وعدم حصر السلطة والصلاحيات من جهة مركزية واحدة وأنما توزيعها ضمن الهيكل الإداري الفيدرالي أو غيرها من الإدارات اللامركزية وزيادة دور السكان في الأقاليم والمناطق، وعلى صعيد البلد، ليس فقط في تحديد الاستراتيجيات والأهداف وإنما اللامركزية أيضاً تلعب دور المساهم والمراقب على سياسات الدولة وإجراءاتها بما في ذلك علاقاتها الدولية وضمان إيجاد موقع طبيعي ضمن المجتمع الدولي.

إن الفيدرالية العراقية هي بمثابة أطروحة بدأها الأكراد وأيدتها القوى السياسية المتحالفة معها في خارج العراق أيام المعارضة، لأن الأكراد العراقيين عندما ضمنوا صيغة الحكم الذاتي بالانفصال القسري عن السلطة المركزية في النظام السابق وحققوا التقدم الملموس في إدارة المنطقة الشمالية أرادوا وهم الطرف القوي من حيث الأرض والسلطة والمال إن يضمنوا حقوقهم دستورياً وعملياً في ظل الحكومة الجديدة.

فمبدأ الفيدرالية لا يكون بديلاً عن الالتزام السياسي للأحزاب الوطنية والمجموعات الأخرى، سواء كانت أثنية أم جغرافية، بأن تقوم بالتفاوض بنية حسنة مع الالتزام المشترك بمستقبل يتقاسمه الجميع كدولة واحدة لكن بامكان النظام الفيدرالي اللامركزي تشجيع الأحزاب على تجاوز مثل هذه الانقسامات وتكوين تحالفات خارج أحزابها من أجل كسب السلطة والتأثير في السياسة.

ومع وجود مراكز متعددة للسلطة، بامكان الهيكلية الفيدرالية عدم تشجيع الخوف من استبداد الأغلبية وتستطيع اللامركزية السياسية منع الأحزاب الدينية أو الأحزاب الأخرى "المستندة إلى الهوية" على تولي السلطة الكاملة من خلال السيطرة على الحكومة المركزية، وأن فازت في انتخابات حرة، ومنعها أيضاً من أن تهدد سلطة أو هوية وحتى سلامة المجتمعات الأصغر حجماً، من خلال توزيع السلطة بين مستويين للحكم وإعطاء المجموعات المحلية سيطرة أعظم على شؤونهم السياسية، الاجتماعية والاقتصادية، وفي الوقت نفسه جعلهم يشعرون بأنهم غير مستغلين وبأنهم أكثر أماناً.

إن الحديث عن شكل ومضمون الفيدرالية القادمة في العراق تحكمه عدة معايير تشكل بمجملها ضوابط دقيقة ومحكمة تحدد سلطة واختصاص الحكومة، ووفق مبدأ التوافق السياسي السلمي ضمن الإطار الوطني سبيلاً لتعزيز مفهوم الديمقراطية والوحدة الوطنية، وأبرز المعايير هي:-

1. القيام بنشر ثقافة الحكم الفيدرالي بين أوساط الشعب العراقي غير السياسي حتى يتفهم طبيعة الفيدرالية أو أضرارها المحتملة.

2. الحرص على تأكيد الأسس والمبادئ التي تقوم عليها الفيدرالية العراقية ليتمكن المواطنون من تحديد الأساس المضمون والنافع من بين الأسس المختلفة.

3. توضيح مبادئ توزيع السلطة بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية وطبيعة مصادر الثروة وكيفية توزيعها.

4. إعلان استفتاء شعبي واضح الأهداف بشأن قبول الفيدرالية أو تأجيلها أو رفضها.

وفي إطار التطبيق الفعلي والعملي لمبدأ الفيدرالية في العراق، ينبغي مراعاة حقوق الأقليات الأخرى في الأقاليم الشمالية من العراق، حيث التعدد الديني والثقافي واللغوي الذي يشكل سمة مجتمعية مميزة لفئات مختلفة لا يمكن إنكار حقوقها، ذلك أن التجانس العرقي/ الثقافي قد يخلق دولة ناجحة أنما الأمر مرتبط متغيرات أخرى في مقدمتها السياسات العامة التي يتخذها النظام السياسي (المحلي) فضلاً عن تقبل الجماعات المحلية داخل الوطن الواحد لبعضها البعض ورغبتها في العيش المشترك على الرغم من الاختلافات الاثنية فجميع مكونات العراق الاثنية تلتقي في مستويين:- هما الإسلام أو العربية وبالتالي فأن المجتمع العراقي رغم التعدد والتنوع الذي ينطوي عليه فهو مجتمع متجانس إلى حدٍ كبير في دينه ولغته وتكوينه القومي.

واستناداً إلى هذا التعدد والتنوع ينبغي أن تكون هناك فيدرالية منسجمة ومحافظة على شكل الدولة وضامنة لكل الحقوق الدستورية لمختلف المكونات الاجتماعية ضمن إطار لامركزي إداري يمكن أن تحافظ على الوحدة الوطنية وفقاً لمبدأ (الوحدة غي إطار التنوع) أو (التنوع في إطار الوحدة) وبذلك تكون الفيدرالية اللامركزية الإدارية حلاً توفيقياً لدولة لا تستطيع أن تحافظ على وحدتها الاندماجية البسيطة من جهة، ولا تريد لمكوناتها الاجتماعية أن ينفرط عقد الدولة من جهة أخرى، ويبدو أن الدولة العراقية قد وصلت إلى هذا المفترق السياسي، لذا يبدو خيار الفيدرالية حلاً واقعياً لهذا المأزق، ذلك أنه حين تختار مجموعات متنوعة من الناس الأحرار، بلغات أو معتقدات دينية أو عادات ثقافية مختلفة العيش ضمن إطار دستوري متفق عليه، فأنهم يتوقعون درجة من الاستقلال المحلي والفرص الاقتصادية والاجتماعية المتكافئة، ويمكن النظام الفيدرالي الحكومة أي السلطة المشتركة على المستويات المحلية والإقليمية والوطنية المسؤولين المنتخبين في وضع وتنفيذ سياسات منسجمة مع الحاجة المحلية والإقليمية والوطنية.

وعلى أساس ما تقدم، يمكن أن نشير إلى أن الحكومة الاتحادية (الفيدرالية) هي مبدأ في التنظيم السياسي يسمح ابتداءً للولايات المستقلة أن تتحد تحت حكومة مركزية مشتركة في حين تحتفظ ببعض سلطاتها ووحدتها، وهذا النظام يتصف بالمرونة ضمن مفهوم الاتحاد الذي تضمنه بعض الدساتير في بعض الحكومات ومع أن كلاً من المستويين من الحكومة يتمتع بقدر كبير من السلطة، فإن استخدام السلطات وأهميتها النسبية قد ينتقل بينهما استجابة لظروف معينة، خصوصاً الأمر بحاجة إلى المرونة بسبب البيئة إذا رافق التغيير النمو الضخم في عدد السكان، فإن زيادة السكان معناها زيادة الخدمات الحكومية، والزيادة بحاجة إلى تنظيم مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وهنا لابد أن تواءم الحكومة الفيدرالية هذه التغييرات.

5. مستقبل الفيدرالية في العراق:

إن التطرق إلى مستقبل الفيدرالية في العراق تحكمه عدة معايير موضوعية تتوقف بدورها على ما سيؤول إليه شكل النظام السياسي في العراق وما ستقره لجنة صياغة الدستور العراقي الدائم فيما يخص مسألة الفيدرالية التي تعتبر بمثابة الفصل في إعطاء الحقوق والواجبات للأكراد في المناطق والأقاليم الشمالية، حيث أن نجاح تطبيق هذا المبدأ (الفيدرالية) يتوقف بالدرجة الأساس على مدى تجاوز وتغليب روح المواطنة والهوية العراقية على العناوين الاثنية والقومية والطائفية والقبلية، يضاف إلى ذلك مدى توفر وإشاعة الوعي السياسي والشعبي بأهمية الفيدرالية بصفتها الضمانة الأكيدة لحقوق الأقليات ضمن الدستور الجديد ذلك أن المستقبل سيوضح أن إلحاح الأكراد على حل الفيدرالية وتطبيقها هو ليس هدفاً قومياً فقط، وإنما هو خدمة هامة وهادفة للشعب العراقي كله، الذي هو بحاجة ماسة لممارسة ديمقراطية حقيقية حُرم منها طوال سنين طويلة جداً.

حيث أن صدور قانون إدارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية وأجراء الانتخابات الديمقراطية لاختيار ممثلي الشعب للاضطلاع بدورهم في المرحلة الانتقالية لتأسيس نظام فيدرالي قائم على دستور دائم ومبدأ اللامركزية الإدارية وتنشيط دور الإدارات المحلية والبلديات هذا "الهرم لنظام الإدارة الحديثة" يساهم في تطوير المناطق والحصول على حصصهم العادلة من الموارد المالية لإعادة استثمارها في مناطقهم بغية تنميتها وتطوير كفاءات الإدارات المحلية ومراعاة الخصوصية الجغرافية والاثنية والقومية لتلك المناطق مع توطيد وشائج العلاقة مع المراكز والهيئات الإدارية العليا وبشكل يلبي مطالب كافة الأطراف التي لديها مصلحة حقيقية في أنجاز التجربة الفيدرالية واللامركزية الإدارية وبناء العراق الجديد على أسس حديثة متمدنة أثبتت جدواها في تجارب شعوب وبلدان العالم الأخرى.

فالعملية الفيدرالية تضمن عمليات عديدة تبني أسساً ومؤسسات ديمقراطية تتحر جزئياً من المركزية، لكنها تعتمد على الانتخابات بشكل أساسي، وذلك ما سوف يعزز من الوحدة الوطنية بين القوميات التي تكون المجتمع العراقي، وهذا ما يؤكد صحة فرضيتنا السابقة، وهكذا فإن الفيدرالية عند تحقيقها سوف تؤدي إلى:-

أقامة كردستان العراق وتعزيز الوحدة الوطنية الصادقة، حيث سيشعر الأكراد لاحقاً بعد التطبيق الصحيح للفيدرالية أنها تقسيم إداري ليس ألا ولا تعني عزل أو فصل أي إقليم عن الأقاليم العراقية الأخرى. ربما سوف ينشأ شعور (إقليمي) في البداية، لكنه سيزول بترسيخ التجربة الديمقراطية وسيحل محله الشعور الوطني. وهذا ينطبق على الأكراد قبل غيرهم، فقد أثبتت التجارب أن الاضطهاد القومي يزيد من التعصب لدى أبناء القوميات المضطهدة، وذلك أمر طبيعي لأن الإنسان حريص على ما منع منه خصوصاً عندما يكون ذلك جزءاً من حقوقه. وعلى العكس من ذلك، فإن أعطاء الحقوق القومية سيخمد نار التعصب القومي ويقوي من لُحومة الشعور الوطني. أي أن الحل الفيدرالي وأسلوب الأداة اللامركزية وتطبيقه بنجاح سوف يقلل إلى درجة كبيرة مخاطر انفصال كردستان عن العراق ويعزز من شعورهم الوطني العراقي، لأن ذلك يقنع الأكراد بأن ارتباطهم بالوطن العراقي لا يسلبهم أي من حقوقهم القومية والإنسانية، بل أنه سوف يمنحهم امتيازات وقوة لا يمكن الحصول عليهما في حالة انفصالهم عن العراق، وذلك سوف يتحول إلى ضرورة كردية مثلما هو ضرورة عراقية في آن واحد.

ومن هنا، فإن اتحاد العقل الكردي الديمقراطي مع الوعي الديمقراطي العربي ومع الوعي التركماني المتشابه ومع غيرها هو الضمانة الأكيدة التي تستطيع بها الدولة العراقية الجديدة من أقامة فيدرالية لا مركزية إدارية تؤدي أو ما تؤدي باللحظة الحاضرة إلى وضع العراق بثقله المادي كله وبثقله في المجتمع الدولي وبقواه الجماهيرية الديناميكية على السكة القياسية الصحيحة الموصلة إلى الديمقراطية والتنمية.

وانطلاقاً من هذا المنظور في إرساء نهج جديد وحديث لإدارة المجتمعات على مستوى الدولة والأقاليم والمقاطعات والولايات والبلديات ووحدات المجتمعات الصغيرة، فإنه يمكن القول، بأن الفرصة أمام العراقيين تعتبر ذهبية وتاريخية، لتجاوز الآثار المتخلفة عن نظام الحكم السابق، وإرساء النموذج المنشود والجديد لإدارة دولة حديثة قادرة على النهوض بالعراقيين ورسم عراق زاهر للحاضر والمستقبل.

ولا شك أن التجربة المريرة التي مرت بها الأمة العراقية على مر عهود طوال، ستجعل العراقيين على قناعة تامة أن الفيدرالية ومبدأ اللامركزية وحقوق الإنسان هي الأركان الأساسية التي ستبنى عليها الدولة العراقية الحديثة.

وخلاصة ما تقدم، يمكن طرح بعض الأسئلة التي تعتقد أنها مفيدة وضرورية حول أمكانية أو عدم أمكانية أقامة فيدرالية في العراق،.

التساؤل الأول:- ما هو الهدف النهائي وراء الفيدرالية التي طرحها بقوة الأكراد وحققوا نصراً قانونياً هاماً بهذا الصدد؟ وهل يمكن أن تقود خطوة الفيدرالية فيما بعد لتمزيق العراق وتفرقته بسبب استقلال كردستان؟

وهنا نشير إلى أن النصر القانوني جاء نتيجة التثقيف والتوجيه السياسي من قبل الأحزاب الكردية بدليل أن الأحزاب الكردية قامت وعبر مكبرات الصوت بدعوة المواطنين الأكراد للتصويت في الانتخابات باعتبار أن هذه الانتخابات فرصة ذهبية ينبغي استثمارها بسبب الخلاف الدائر آنذاك بين السنة والشيعة، فالأكراد أدركوا أنهم عنصر توازن وان هذه ستكون ربما الفرصة الأخيرة التي سيتولى فيها رئيس كردي رئاسة بلد معظم سكانه من العرب.

التساؤل الثاني:- إذا كان المطمح أو الهدف النهائي للفيدرالية هو الاتحاد مع العرب وليس التوحيد معهم فما هو الداعي لانتخاب (مسعود البرزاني) رئيساً لإقليم كردستان.

التساؤل الثالث:- إذا كان من حق من تضرر في السابق أن يستفيد في الوقت الحاضر- نتساءل ايهما تضرر أكثر الأكراد في الشمال أم الشيعة في الجنوب؟ وإذا كان مبرر رفض الأكراد لرفع العلم العرقي على إقليم كردستان باعتبار انه تحت هذا العلم تم قصفهم وإيذاءهم، أليس من حق الشيعة رفض العلم أيضاً.

وإذا كان الشيعة موافقين على هذا العلم فلماذا يرفضه الأكراد، وإذا كان العلم رمزاً للنظام وليس لشعب فلماذا تعترف به دول تضررت من سياسات ذلك النظام مثل إيران والكويت؟

ولو كانت مشاركة العرب السنة في الانتخابات السابقة، بنفس المشاركة التي شارك فيها الشيعة فهل سيكون الوضع على ما هو علية الآن؟ ولو كان الأكراد يسكنون مناطق غير مناطقهم الجبلية المحصنة فهل ستكون مواقفهم من الأنظمة السياسية المتعاقبة في العراق هي نفس المواقف التي تبنوها؟ وحين يكون الرئيس كردياً فما الداعي لدعوة الأكراد للفيدرالية؟

وإذا كان منح الفيدرالية لأكراد العراق سيؤثر على وضع الأكراد في تركيا وحيث أن تركيا هي عضو في حلف الناتو وحليف إستراتيجي للولايات المتحدة في الوقت ذاته بحيث أن استقرار تركيا هو من ضمن الأجندة الأمريكية في المنطقة فهل ستوافق الولايات المتحدة على نشر عدم الاستقرار في تركيا بعد منح أكراد العراق الفيدرالية التي ينادون بها وبصورة متطورة.

هذه مجمل الأسئلة التي نراها ضرورية والتي ينبغي التمعن بها قبل اتخاذ أي موقف أو قرار سياسي بشأن شكل الفيدرالية في العراق، على أن ذلك لا يعني إنكارنا للحقوق القومية الوطنية والتضحيات الجسيمة التي قدمها الأكراد ونضالهم في سبيل نيل حقوقهم المشروعة ضد النظام السابق.

ومن خلال تلك الأسئلة الموضوعية فأننا لا ندعي بامتلاك التصور الكامل ولكننا فتحنا ضوءاً في أحدى زوايا القمة.

* ماجستير/ علاقات اقتصادية دولية

 

الصفحة الرئيسية | نشاطات المركز | مقالات | عن المركز | بحوث مستقبلية | إصدارات المركز | الهيئة الإستشارية | منار المستقبل | إتصل بنا

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

 جميع الحقوق محفوظة لمركز المستقبل للدراسات والبحوث / 1426هـ / 2005م

info@mcsr.net