|
أبو الأسود الدؤلي ودول
الجوار، حوار وغثيان ودوار
بين الدول الإنسان هناك الكثير من أوجه
التشابهه، من حيث الصفات والسلوك والعلاقات وغيرها، غير أن
مسألة الجار تعتبر من المسائل ذات الوجهين، إذ تتشابه في بعض
الجوانب من مثل حقوق الجيرة والجار الطيب وجار السوء، وتختلف
من أوجه أخرى من مثل امكانية تغيير السكن في حالة كون الجار
جار سوء يعمل على إيذاء جاره أو حتى ازعاجه وكذلك بالنسبة إلى
امتلاك حرية اختيار الجار.
فالإنسان بامكانه الانتقال من مكان إلى أخر،
كما أنه حر في اختيار الجار في معظم الأحيان، أما الدول
وبالخصوص بالزمن المعاصرة وبعد أن جرى تثبيت وتحديد حدود الدول
بموجب معاهدات دولية، ما عاد باستطاعتها فعل ذلك، كما فعل أبو
الأسود الدؤلي إذ تنقل لنا كتب التاريخ حكاية طريفة عن موضوعة
الجار السوء. فيحكى أن أبا الأسود كان يسكن حياً في مدينة
البصرة، وبسبب وكان جيرانه يرمونه مساء كل يوم بحجر! وفي
الصباح كان جاره ينتظر خروجه من داره ليقول "إيه يا أبا الأسود
رماك الله البارحة بحجر"؟ فيجيبه أبو الأسود "كلا لم يكن الله
هو الذي رماني، بل أنتم رميتموني، لو كان الله لأصابني، ولكنكم
لم تصيبوني".
وفي أحد الأيام رآه جاره وهو حاملاً حاجيات
داره على ظهر حمار، فسأله الجار: "إيه أبا الأسود، بعت دارك"؟
فأجابه أبو الأسود: "لا والله ما بعت داري... ولكن بعتُ جاري".
جيران العراق.. محطات تاريخية:
بسبب خضوع هذه المنطقة الحيوية من العالم والتي
يقع العراق في قلبها إلى سيطرة وهيمنة (عسكرية- اقتصادية-
ثقافية) الدول الغربية ابتداءً من نهاية الحرب العالمية الأولى
التي نتج عنها انتصار دول الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وايطاليا)
على اليابان والإمبراطورية النمساوية- المجرية وألمانيا
وحليفتها الدول العثمانية (الرجل المريض)، والى تقسيم الأخيرة
بين الدول المنتصرة وإعادة رسم خريطة هذه المنطقة وبالخصوص من
قبل الدول الأقوى بين دول الحلفاء وهي بريطانيا ومن ثم تشكيل
الدول الحديثة ومن ضمنها العراق سنة1921، فقد اختلفت طبيعة
علاقات العراق مع دول الجوار بين الايجابية والسلبية (الجيدة
والسيئة) تبعاً إلى علاقات العراق مع الغرب، فكانت تلك
العلاقات تتسم بالودية وحسن الجوار وبشكل عام منذ تأسيس الدولة
العراقية الحديثة سنة1921، ما عدا فترات شهدت توتراً بالعلاقات
مع سوريا وخاصة بعد تشكيل حلف بغداد 1955 والاتحاد الهاشمي
سنة1958.
وبعد قيام الجمهورية العراقية شهدت العلاقات
توتراً مستمراً، وبالخصوص مع كل من تركيا وإيران العضوتين في
حلف المعاهدة المركزية (السنتو) حلف بغداد سابقاً ومع سوريا
وحتى الانفصال عن مصر سنة1961 لأسباب تتعلق بطموحات سياسية لدى
قادة الجمهورية العربية المتحدة وقتذاك. ومع الأردن كونها كانت
أحدى دولتي الاتحاد الهاشمي وتحكم من نفس العائلة المالكة التي
تم تصفيتها في العراق، وكذلك مع كل من السعودية والكويت. ثم
عادت علاقات دول الجوار مع العراق بسبب اتباع قادة الانقلاب
سياسة خارجية موالية للغرب ومعادية للاتحاد السوفيتي السابق
وقتها.
واستمرت تلك العلاقات تتبع نهجاً ايجابياً،
ومتخذة طابعاً ودياً خالياً من المشكلات الكبيرة، حتى بعد عودة
حزب البعث إلى سدة الحكم ثانية بانقلاب 17 تموز 1968، عدا
سوريا بسبب كونها تحكم من قبل جناح من حزب البعث مناهض للجناح
الذي قاد الانقلاب، أما إيران فقد حلت اتفاقية الجزائر سنة1975
كافة المشاكل العالقة بين البلدين وحتى قيام الجمهورية
الإسلامية في شباط 1979 حيث ساءت العلاقات وصولاً إلى الحرب
المدمرة بين البلدين التي اندلعت في أيلول 1980 واستمرت لمدة
ثمان سنوات، بسبب انتهاج إيران سياسة معادية وبعيدة عن مصالح
الغرب هذه المرة.؟ ومحاولة الولايات المتحدة الأمريكية قائدة
المعسكر الغربي دفع النظام العراقي السابق ودعمه عسكرياً
ومالياً لشن حرب بالنيابة لإعادة الحصان الإيراني (الجامح) و
لا نقول الجانح حسب تصور الغرب إلى الحضيرة..!؟.
وما عدا إيران وسوريا، شهدت العلاقات العراقية
مع بقية دول الجوار وحتى قيام النظام العراقي السابق بغزو
الكويت في 2 أب1990، احسن حالات الودية وحسن الجوار بل والى ما
يشبه التحالف أثناء الحرب العراقية – الإيرانية.
وبعد فرض الحصار الاقتصادي على العراق لم يبق
للعراق من علاقات مع دول الجوار أي شيء ما عدا البوابة
الأردنية، لكن شيئاً فشيئاً أخذت العلاقات تعود مع كل دول
الجوار عدا الكويت، وكان لكل دولة أسبابها بإعادة تلك
العلاقات، ولكن يمكن أن نقول أن المصالح الاقتصادية والاستفادة
من صفقات النفط مقابل الغذاء، الشرعية منها وغير الشرعية..؟ هي
التي كانت العامل الرئيس وراء عودة العلاقات وتحسينها.
وبالخصوص مع دمشق.
طبيعة العلاقات بعد سقوط الدكتاتورية.
قبل التطرق إلى طبيعة العلاقات بين عراق ما بعد
سقوط النظام الدموي السابق ودول الجوار علينا أن نؤشر بعض
العوامل التي كان لها الدور الفاعل في رسم طبيعة تلك العلاقات،
وفي تحديد معالمها ورسم صورتها وهي:
1. عمل قوات الاحتلال الأجنبي على تفكيك أسس
الدولة العراقية أو إلغاء بعض ركائزها كالجيش والشرطة وبطبيعة
الحال السيادة الوطنية.
2. عمل قوات الاحتلال على ترك حدود العراق مع
جيرانه مفتوحة ومباحة من قبل أي كان يريد التجاوز على تلك
الحدود أو استباحتها لمقتضيات مشاريع وأهداف دول تلك القوات.
3. الشعور بالخوف والريبة من قبل دول الجوار من
مدى المشروع الذي ابتدأته الولايات المتحدة بالعراق، وحقيقة
أهداف ذلك المشروع.
4. محاولة بعض تلك الدول وبعد انهيار النظام
السابق تأسيس موطئ قدم لها في العراق للتأثير على مستقبل
السياسة العراقية.
لقد اتبعت دول الجوار كافة ودون استثناء سياسة
التدخل بالشأن العراقي الداخلي بعد سقوط النظام السابق، وبما
يوحي وكأن الدولة العراقية قد زالت للأبد وأنه لن تقوم للعراق
قائمة مرة أخرى، كما يبدو ومن الكيفية التي تعاملت بها مع
الشأن العراقي أنها قد أثبتت الشعار ذاته الذي يرفعه الجهاز
الإداري الفاسد والمتحلل الموروث من النظام السابق والذي كان
قد أطلقه الفريق الركن نور الدين محمود رئيس أركان الجيش
العراقي والذي كلف بالقيام بوظيفة رئاسة الوزراء، أو بالحقيقة
أنه عين حاكماً عسكرياً للعراق بعد انتفاضة تشرين الثاني1952
وعبارته المشهورة التي تقول (العراق خيمة تحترق وسعيد الحظ
والذكي هو من يحصل على قطعة منها).
لقد اختلفت درجة التدخل من دولة لأخرى تبعاً
لإمكانيات تلك الدولة أو مدى متانة علاقتها مع الولايات
المتحدة الاميركية قائدة قوات التحالف الذي أحتل العراق، إلا
أنها جميعاً أو بدلاً من أن تبذل جهوداً من اجل العودة السريعة
للعراق للحالة الطبيعية والحرص على سير العملية السياسية
الجارية حالياً في العراق والهادفة إلى إقامة نظام سياسي يتبنى
الأسلوب الديمقراطي فلسفة وشكلاً للحكم القادم الذي ستكون
خطوته الأولى هي أجراء الانتخابات النيابية في الثلاثين من
كانون الثاني الجاري والتي ستؤدي إلى انتخاب الجمعية الوطنية
العراقية البالغ عددها (275) عضواً والتي ستقوم بصياغة دستور
البلاد الدائم الذي سيكون الأساس المتين الذي ستشيد عليه أسس
وأركان الدولة العراقية القادمة.
نقول.. إنها وبدلاً من أن تعمل على مساعدة
الشعب العراق النازف الجريح الخارج للتو من أتون حكم دكتاتوري
لم يشهد له التاريخ مثيلاً، إضافة إلى المعاناة الكبيرة جراء
حصار اقتصادي جائر امتد لمدة ثلاثة عشر سنة، عليها بضبط حدودها
على اقل تقدير لمنع تسلل الإرهابيين من جنس ولون القادمين لزرع
الموت والدمار لشعب عانى من الموت الجماعي، ولوطن لحق به
الدمار الشامل على مدى أربعين عاماً، فإن تلك الدول قد ساهمت
بشكل وبآخر بتسهيل المجال لأولئك القتلة، ولم تكف وحتى اليوم
عن دس انفها بالشأن العراقي الداخلي، وأكنها نصّبت نفسها وصية
على هذه الطائفة أو تلك من طوائف وقوميات الشعب العراقي التي
عاشت ولعشرات السنين متآخية موحدة ولم تعرف الفرقة أو التفرق
الاَّ ما كان بسبب السلطة الحاكمة في بغداد، أو بسبب تدخل هذه
الدولة المجاورة أو تلك..؟.
إن الحقيقية التي يتوجب على دول الجوار كافة
معرفتها وأن تعيها بصورة جيدة، هو أن العراق شعباً ووطناً لا
بد له من تجاوز هذه المحنة التي يمر بها اليوم وأنهما سينهضان
من جديد على الرغم من كل الجروح التي يحملانها، وسيعود العراق
ليس كما كان فقط، بل وأيضاً أكثر قوة وأعزّ منعة، وسيبني دولة
ديمقراطية ستكون مركز أشعاع لكل دول المنطقة.
ولذا فإن على دول الجوار، وهو ما تقتضيه منها
الشريعة الإسلامية السمحاء والقيم الإنسانية العليا وأيضاً
القوانين والمواثيق الدولية كافة، أن تعيد النظر بسياستها
الحالية تجاه العراق ووفق مبادئ حسن الجوار وعدم التدخل
بالشؤون الداخلية للدول الأخرى، وإقامة علاقات تعمل على تحقيق
المصالح المشتركة لشعوب دول كهذه المنطقة كافة وبما يؤمن سيادة
السلم والأمن وتحقيق الخير والرفاه لها جميعاً.
ولا بد لنا من كلمة أخيرة نقولها لهم إن قدر
الله سبحانه وتعالى وحكم الجغرافية قد قضيا بأن نكون جيراناً،
ونحن ليس كأبي الأسود الدؤلي ننوي أن نبدل سكننا أو نغير
جارنا، فنحن باقون في ديارنا وليس في نيتنا الرحيل عنها،
ونعتقد بأنكم كذلك لستم راحلين عن دياركم.
ولنتذكر جميعاً حديث الرسول الأكرم محمد (ص):
(جارك، ثم جارك، ثم جارك). |
