الطائفية هذه المفردة المقيتة
لمصلحة من يعاد إنتاجها وتسويقها؟
عرفت هذه الأرض التي اسماها المؤرخون (بلاد ما
بين النهرين) (ميزوبوتيميا) وأسموها أهلها (العراق)، عرفت تعدد
الأعراق وربما جاءت تسمية أهلها لهذا السبب وليس لكثرة عروق
الأشجار كما يراه البعض من المختصين بالتاريخ القديم كما عرفت
تعدد الأديان والطوائف منذ فجر التاريخ.
فتوفر المياه الذي أدى إلى خصوبة تربتها،
ولموقعها الجغرافي المتميز حيث تقع في قلب هذه المنطقة من
العالم، مما دفع أقوام عديدة إلى النزوح أليها والإقامة
والاستيطان فيها، طلباً للخبز والسلام والأمان.
وتحدثنا كتب التاريخ ومذكرات الرحالة بأن كل
الأقوام التي جاءت بقصد الاستيطان سرعان ما اندمجت مع أهل هذه
الأرض من السومريين أو مع الأقوام التي كانت قد سبقتهم بالمجئ.
وحتى تلك المجاميع من البشر التي جاء بها ملوك
العراق القدامى بعد انتصاراتهم العسكرية كأسرى حرب واسكنوهم
أرض بابل وأماكن أخرى، صاروا بعد حين من الدهر جزءا من شعب أرض
دجلة والفرات ورفضت الأغلبية الساحقة منهم العودة إلى أرض
كنعان (فلسطين) عندما طلب كورش ذلك منهم، بل أن أنبيائهم
كأشعيا وحزقيال والعزير وذي الكفل (ع) قالوا لهم، بأن هذه
الأرض هي أرضهم وهذا الشعب هو شعبهم.
لم يحصل ذلك اعتباطاً ولا هو طاعة عمياء
للأنبياء (ع)، لكنه جاء جراء ما وجدوه من ترحاب وكرم وطيبة نفس
في تعامل العراقيين معهم وبروح تحمل كل معاني السمو الإنساني
والقيم النبيلة من التسامح والمحبة والألفة والأخوة البشرية
والخالية من أي شكل من أشكال الحقد أو التعصب أو الكراهية.
توارث العراقيون تلك الصفات جيلاً بعد جيل
وصارت من مكونات عامل الوراثة ألـDNA) ) عندهم، وبعد ظهور
الديانة المسيحية وتنصّر بعض القبائل العربية وأهل نينوى، عاش
العراقيون على هذه الأرض المعطاء من المسيحيين والصائبة
المندائيين واليهود والعرب المشركين سوية وجنباً إلى جنب،
وكانت مدنهم في ذلك الوقت كالحيرة وميسان ونينوى وغيرها من
بوادي وحضر تضم كل تلك الأديان والأعراق، ولم نسمع أو نقرأ عن
حدوث أية حادثة تدل على نشوب نزاع أو تناحر بين معتنقي الأديان
والأعراق المختلفة.وجاء الإسلام العظيم ليعزز تلك الروح ويجذّر
تلك القيم ويضيف أليها وحديث الرسول الكريم محمد (ص) (أنما
بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) و (كلكم لآدم وادم من تراب) والكثير
من أحاديث رسول الإنسانية (ص) تأكيد لذلك.
وها هو تلميذه الوفي، الأمين، أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب (ع)، يقنن تلك المبادئ بقرار تشريعي لازم حيث
يكتب في عهده لمالك بن الحارث بن الاشتر النخعي (رض) عندما
ولاه مصر.
(واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم،
واللّطْفَ بهم، ولا تكونن عليهمْ سبعاً ضارياً تغتنم أكلَهُمْ،
فأنهم صنفان، إما أخ لك في الدين، وإما نظيرٌ لك في
الخلق)."نهج البلاغة المجلد التاسع ص24"
وبعد تطور الدولة الإسلامية وتقدم الفكر
الإسلامي، نشأت المذاهب وتعددت الفرق، وحصل الاختلاف بوجهات
النظر حول الثانوي من مسائل العبادات وفي بعض قضايا المعاملات.
كان حصول مثل هذا الأمر هو في غاية الطبيعية،
حينما تتطور جوانب الحياة ويستجدُ تبعاً لذلك الكثير من
الحالات الجديدة وحينما تتعدد وتتشعب أوجه النشاط الإنساني
وينشأ الجديد من الحاجات، فلا بد والحالة هذه للفكر وأحكام
التشريع من التطور والتجدد والتنوع أيضاً انعكاساً لذلك.
ولقد قال الرسول الأعظم محمد (ص) (اختلاف أمتي
الرحمة).
ومرة أخرى نعود إلى بطون كتب التاريخ لنقرأ
فيها عن مدن العراق الرئيسية في ذلك العصر وهي البصرة والكوفة
ومن بعدها بغداد، التي أضحت وابتداءً من منتصف القرن الثاني
الهجري عاصمة دنيا ذلك الزمان. إذ تقول أنه عاش فيها مختلف
الأعراق من العرب والأعاجم (وهم كل الأقوام من غير العرب) وحصل
نفس الشيء بالنسبة للأديان فلقد جمعت أحياءها المسلمين
والمسيحيين والصابئة واليهود، دون تفرقة أو تمييز بين واحد
وأخر، بل على العكس من ذلك تماماً، حيث تذكر ألينا المصادر
العديدة والأكيدة، عن أشخاص من غير العرب ومن غير المسلمين قد
تبوؤوا مناصب رفيعة في بلاط خلفاء بني العباس ولكي نكون دقيقين
نقول بأنه قد حصلت ولفترات قليلة لا يحسب حسابها بعمر الزمن
حوادث فرقة وتناحر، سرعان ما انتهت وتلاشت وعاد الناس يعيشون
كالجسد الواحد إذا ما تداعى منه عضو، تداعى له باقي الجسد
بالسهر والحمى.
وللحقيقة نقول، أنه لم تحصل تلك الفترات الشاذة
من تاريخ العراق، ألاّ بسبب سياسة السلطة الحاكمة، فالصراع من
أجل الاستئثار بالسلطة لغرض الحصول على امتيازاتها ومكاسبها من
مال وجاه ونفوذ كانت على الدوام هي الدافع الرئيس لحدوث تلك
الفترات المظلمة.
ما عدا تلك الحالات القليلة، فقد عاش جميع
العراقيين حياة التآلف والأخوة جيلاً بعد جيل وحتى العصر
الحديث والأزمنة المعاصرة، وخاصة مدينة بغداد، التي ولكونها
أكبر المدن فلقد جمعت ناس من مختلف الطوائف والأديان،
والأجناس.
إذ شهدت محلاتها القديمة وأحيائها الشعبية التي
بعض منها يعود إلى زمن العباسيين وبأزقتها الضيقة والتي كان
معظمها مغلقاً، أي ليس له منفذ غير درب واحد للذهاب والمجئ،
شهدت روح التآلف والتسامح والمحبة، فكان يعيش في الزقاق
(الضيق) الواحد العربي والكردي والكلداني، المسلم (السني
والشيعي) والمسيحي والصابئي وحتى اليهودي، ومن أمثلة تلك
المحلات كثيرة كالدهانة والصدرية وصبايغ الآل والعوينة ومن ثم
باب الشيخ والكرادتين (الشرقية ومريم)، وغيرها.
وعين هذه الحالة عاشتها المدن العراقية، حتى
تلك التي تأسست نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين
كالناصرية والعمارة وأربيل والسليمانية.
على الرغم من كل المحاولات التي بذلها الغزاة
الأجانب من أجل أحداث الفرقة الطائفية وذلك من خلال تنصيب
أنفسهم أوصياء على طائفة معينة، كما حصل أثناء الصراع
الإيراني- التركي على العراق الذي ابتدأ بعد قيام الدولتين
الصفوية في إيران والعثمانية في بلاد الأناضول أو ما تسمى
تركيا حالياً، واتخاذهما من العراق ساحة للصراع على النفوذ
بينهما طيلة خمسة قرون انتهت مع نهاية الدولة العثمانية أثر
هزيمتها بالحرب العالمية الأولى عام1918 وتقسيم اراضيها بين
الدول المنتصرة في تلك الحرب.
لقد كان ذلك الصراع إيذاناً وبداية لتدخل دول
الجوار بالشأن العراقي ومحاولة فاشلة لزرع الطائفية الكريهة
بين أبناء الشعب الواحد.
غير أن كل تلك المحاولات الخائبة قد باءت
بالفشل الذريع، ولم تستطع أيٍ من تلكما الدولتين ما عملتا من
أجله، بسبب صلابة أرض الأخوة التي أقامها العراقيون عبر عشرات
السنين، وينقل لنا المرحوم الدكتور علي الوردي على صفحات كتابه
الشهير (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) مثلاً رائعاً
عن عمق الأخوة والألفة بين العراقيين والتي تبين بالوقت نفسه
فشل الغزاة الأجانب في مساعيهم الخبيثة لزرع الفرقة الطائفية،
إذ يقول أنه وبعد ما طلب الشاه عباس الصفوي تسجيل أسماء أبناء
الطائفة السنية من أجل قتلهم، بادر السيد دراج كليدار الحضرة
الحسينية عند ذلك إلى تسجيل العشرات من العوائل السنية
باعتبارهم من الشيعة وبذلك أنقذ حياتهم من الموت المحقق.
اعتمد الاستعمار البريطاني بعد إكماله احتلال
العراق سنة1918، ذات المبدأ وخاصة عند قيامة برسم هيكل الدولة
العراقية الحديثة (برسي كوكس- عبد الرحمن النقيب) باتباعه
سياسة إقصاء لطائفة على الرغم من كونها تمثل الأغلبية السكانية
في العراق.
لم يحصل ذلك حباً بالطائفة الثانية ولا رغبة
بتحقيق مصالح العامة من أبنائها، فمدنهم تشهد لحد هذا اليوم
على الإهمال والخراب العمراني، لكن وحسبما كان يظن من أجل خلق
حالة الفرقة والتناحر بين أبناء الدين الواحد والوطن الواحد،
المتشكل وبالذات العرب منهم، من قبائل توزعت على مختلف مناطق
العراق، واتبعت لذلك مذاهب دينية مختلفة تبعاً لاعتقاد أهل
المنطقة التي أقاموا بالقرب منها.
كان التجلي الواضح لدور السلطة في إعادة أنتاج
هذا المفهوم وتسويقه مجدداً بين أوساط المجتمع العراقي وتمثله
نهجاً ثابتاً وسياسة مبرمجة تجسدت في مختلف أوجه الحياة
السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، هو ما حصل عقب
انقلاب 8 شباط 1963 وبدأ يتصاعد شيئاً فشيئاً في عهد عبد
السلام عارف، حتى بلغ ذلك النهج الجاهلي ذروته وتجليه الأكبر
في حقبة النظام البعثي الفاشي المهزوم، مارس ذلك النظام أسوء
صور التفرقة الطائفية ضد الغالبية العظمى من أبناء الشعب
العراقي، الذين عانوا شتى أنواع القمع والاضطهاد والحرمان من
وسائل العيش والتشريد والتهجير القسري وذلك بأن قذف بآلاف
العراقيين إلى خارج الحدود بحجة التبعية إلى جنسية دولة أخرى.
أن إشاعة الفرقة الطائفية كانت على امتداد
الزمن وطوال التاريخ هي النهج الذي يلجأ أليه كلً من الطغاة
والغزاة بهدف منع توحدهم ولتوجيه اهتمامهم إلى مسألة (مختلقة،
غير حقيقية)، من أجل إدامة النهب والاستئثار بالسلطة والسيطرة
الغاشمة واليوم بعد مرور العامين تقريباً على سقوط أعتى
الأنظمة الطائفية وأكثرها تخلفاً وهمجية، كان من المفترض أن
تسقط تلك المفاهيم معه، أو على الأقل أن تبدأ بالاضمحلال
والتلاشي شيئاً فشيئاً، وان يمنع أعادة إنتاجها بشكل تام
ونهائي تماماً كأسلحة الدمار الشامل التي كان يصنعها ذلك
النظام، كما ويجري تحريم تسويقها في ظل الوضع الجديد الذي قام
بعد9/4/2003، وكما حصل أثر 14تموز1958.
غير أن العكس من ذلك تماماً هو الذي صار، فلقد
جرى أعادة أنتاج هذه المفردة (المفهوم) المقيتة بشكل واسع
النطاق في مصانع كثيرة ولمنا شيء متعددة كان جلها خارجياً،
وتوزع بين العربي والاقليمي والدولي.
ومرة أخرى كان لدول الجوار حصة الأسد في العمل
على تسويق هذه المفردة- المفهوم والسعي على نشرها وتوزيعها في
أرجاء العراق كافة.
وللغزاة أيضاً كان دورهم الكبير والخطير وبما
يتماشى مع مخططهم الاستراتيجي تجاه العراق والمنطقة، فكان أن
حاولوا ولا زالوا من اجل خلق عوامل نشوب حرب أهلية- طائفية،
غير أنهم وحتى هذه اللحظة قد فشلوا في ذلك فشلاً ذريعاً، ونحن
على ثقة بأن شعبنا سيقبر كل محاولة في هذا السبيل.
ثم أن ما يجري هذه الأيام من محاولة تقسيم
العراق طائفياً، باستخدام مصطلحات وعناوين طائفية للمناطق
الجغرافية كـ(المثلث السني)، و (الهلال الشيعي)، وإضفاء الطابع
الطائفي على الصراع السياسي الدائر حالياً، هي عمليات تهدف إلى
تمزيق العراق وطناً وشعباً من أجل أن يسهل السيطرة عليه من قبل
القوى الخارجية الطامعة في أرضه وثرواته، أو من قبل دول الجوار
التي تسعى عن هذا الطريق ألسيء ، أيجاد موطئ قدم لها فيه.
ونحن مقبلون على مرحلة جديدة من حياة العراق
السياسية، وهي مرحلة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة
السياسية عن طريق صناديق الاقتراع، ولكون هذه المفاهيم
والأشكال والوسائل تقتضي وجود دولة متحضرة ومتقدمة، وشعب واعي
ومثقف أو متعلم على أقل تقدير، لذلك فأن الرغبة لدى الجميع
وكما هو معلن هو لوجود مثل هذه الدولة وهذا الشعب، وهو ما لا
ينسجم ولا يتوافق بأي شكل من الأشكال مع وجود مفاهيم أو صيغ
ووسائل متخلفة مثل الطائفية.
كما وحيث أن المهمة الرئيسة للجمعية الوطنية
المقبلة والناتجة عن انتخابات الثلاثين من شهر كانون الثاني
الماضي هي صياغة دستور دائم للعراق، فعليه ينبغي الابتعاد عن
مثل تلك الصيغ المتخلفة، والتأكيد على الهوية الوطنية العراقية
لكل العراقيين من مختلف الأعراق والأديان والطوائف.
وبعد على الرغم من الصورة القائمة التي تترائى
لمشاهد الساحة السياسية العراقية اليوم، إلاّ أننا على ثقة
تامة بأن الشعب العراقي وبكل طوائفه وبما يحمل من خزين لا يثمن
ولا ينضب من القيم الأصيلة والجذور القوية التي أرست علاقات
الألفة والأخوة والمحبة بين أبنائه كافة، سينتصر في الأخير
وستخيب كل المحاولات الخبيثة لزرع الفتنة والفرقة في هذا البلد
الطيب والمسالم. |