لعل من بين
الإشكاليات التي لم تستطع تجربتنا الحديثة حلها هي إشكالية
مبدأ المواطنة وتضمينها في الإطار الدستوري للدولة، وهي
إشكالية بنيوية في العمق أكثر من كونها إشكالية مصطلح. ذلك أن
موضوع المواطنة يعتبر من المواضيع المهمة في التاريخ السياسي
والاجتماعي وأساساً مهماً في البناء الدستوري والسياسي لأي
دولة كانت.
إذ تميزت
المرحلة السابقة من تاريخ العراق السياسي بصورة تبدو للعيان
أكثر قتامة وضبابية، امتزجت فيها عوامل غياب الوعي التاريخي
والاجتماعي المتمثلة بعوامل الاصالة والحداثة والمواطنة
والديمقراطية ومفاهيم المجتمع المدني التي تلعب دوراً رئيسياً
في إنضاج وترسيخ الشعور بأهمية المواطنة.
فالدولة كظاهرة
اجتماعية لا يمكن أن تنتج وتقوم ببناء مقوماتها وأسس نهضتها
إلا على أساس مبدأ المواطنة والوطنية المجسدة للفاعلية
الإنسانية التاريخية، ذلك أن المواطنة تعتبر جوهر التفاعلات
التي ينتجها المجتمع ومكوناً أساسياً من مكونات الدولة بصيغتها
المدنية المعبرة عن انصهار وتفاعل جميع تكويناتها الداخلية.
إن إشكالية
تعويم مبدأ المواطنة ومزجها ضمن الأساس التاريخي للدولة هي في
عمقها إشكالية وعي ينبغي أن تتناغم وفق ظروف واستحقاقات
المرحلة الحالية للعراق لتعيد تشكيل حركية المجتمع وبما يتوافق
مع أهمية المواطن باعتباره قيمة ومنتجاً أساسياً من منتجات
المجتمع الحديث المعاصر.
ونبدأ بالقول:
إن مبدأ المواطنة كما تناولته مختلف المراجع والأدبيات
السياسية والاجتماعية بأنه علاقة تبدأ بين فرد ودولة كما
يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من حقوق
وواجبات في تلك الدولة ويندرج ضمن هذا المفهوم، الحرية وما
يصاحبها من مسؤوليات، فالمواطنة تسبغ أو تضفي على المواطن
حقوقاً سياسية وأخرى قانونية واجتماعية واقتصادية
وثقافية...الخ.
ومع أنه يصعب
تحديد تعريف مانع جامع ثابت لمبدأ المواطنة باعتباره مصطلحاً
سياسياً حياً ومتحركاً في سيرورة تاريخية مستمرة إلا أنه يمكن
أعطاء تعريف عام لمبدأ المواطنة ينحصر في: المشاركة الواعية
والفاعلة لكل شخص دون استثناء ودون وصاية من أي نوع في بناء
الإطار الاجتماعي والسياسي والثقافي للدولة.
ومع أن نشوء هذا
المصطلح (المواطنة) يعود لعصور مختلفة، إذ تطرق إليه
الاغريقيون في كتاباتهم مروراً بالعرب المسلمين ثم انتقل فيما
بعد إلى العصور الحديثة واستفادت منه أوربا والدول الغربية
وطورته بما يتوافق مع أهمية وقيمة الإنسان بصفته مواطن ينتمي
لهذه الدولة أو تلك.
فالعرب أو
المجتمعات العربية بصورة عامة، بحكم خضوعها للاستعمار الغربي
لمراحل وأزمنة عدة، تعتبر أية مفاهيم أو مصطلحات خارجية هي من
قبيل مخلفات الاستعمار فلا ينبغي الأخذ بها، وأن المطالبة بها
يدخل في باب الغزو الثقافي والفكري الغربي، وهذه هي أساس
المشكلة وجوهر الخلفية الثقافية التي تعاني منها هذه
المجتمعات.
فالمهم ليس في
تقليد التجربة الغربية ونسخها بصورتها المباشرة ولكن المهم مدى
الاستفادة من مخرجات التجربة ومعرفة إيجابياتها وتحديد أو
تقليل سلبياتها، آخذين بنظر الاعتبار الفارق الجوهري في طبيعة
وتكوين المجتمعات عن بعضها البعض، ومراعاة القيم والتقاليد
والأعراف التي تميزت بها التجارب العربية والإسلامية المختلفة.
وعليه، فأن
تطبيق هذا المفهوم (مبدأ المواطنة) في الواقع العراقي يطرح
نقطتين رئيسيتين هما: مدى ملاءمة طبيعة ونمط الدولة العراقية
لهذا المفهوم ومدى الاستجابة الفاعلة لهذا المفهوم.
إن الدولة
العراقية الجديدة تعتبر بكل المقاييس دولة حديثة العهد
بالديمقراطية أي بمعنى أنها من الدول التي تسلك أولى خطوات
المسار نحو الديمقراطية والحرية، ذلك أن مقومات هذه الدولة
تفتقد بالأساس إلى مؤسسات دستورية قادرة على بلورة رؤية واضحة
لحيثيات المجتمع الذي تعتبر المواطنة ركناً أساسياً من أركانه.
فالمواطنة كما
يراها المفكرون هي ثمرة نضال المحكومين لاستخلاص السلطة من
أيدي الحكام الغرباء عنهم وعن الوطن، حيث اقترن مفهوم المواطنة
أو ما يدل عليه من مصطلحات عبر التاريخ بإقرار المساواة للبعض
أو للكثرة من المواطنين حسب توصيف (روبرت دال) للممارسة
الديمقراطية الراهنة, إذ ينحصر مبدأ المواطنة لديه في قبول حق
المشاركة الحرة الفعالة للإفراد المتساويين في الحقوق
والواجبات، ولا ينحصر مبدأ المواطنة ضمن ذلك الإطار بل يمتد
ليشمل أحقية المشاركة في النشاط الاقتصادي والتمتع بالثروات
فضلاً عن المشاركة في الحياة الاجتماعية وأخيراً حق المشاركة
الفعالة في اتخاذ القرارات الجماعية الملزمة وتولي المناصب
العامة فضلاً عن المساواة أمام القانون.
إذاً هناك ركنان
أساسيان يتعلقان بمبدأ المواطنة هما: المشاركة في الحكم من
جانب، والمساواة بين جميع المواطنين من جانب آخر الذي يعد
المحك الأساسي للمواطنة.
ولعل القاسم
المشترك ـ في وقتنا الحاضرـ المعبر عن وجود قناعة فكرية وقبول
نفسي، والتزام سياسي بمبدأ المواطنة يتمثل في التوافق المجتمعي
على عقد اجتماعي (دستور) يتم بمقتضاه تضمين مبدأ المواطنة
والوطنية باعتبارها مصدر الحقوق ومناط الواجبات بالنسبة لكل من
يحمل جنسية الدولة دون تمييز عرقي أو طائفي أو ديني.
فقد تميزت النخب
السياسية العراقية السابقة بهيمنتها على مراكز القرار والقوة،
وكانت في حصيلتها أن أبعدت مفاهيم الهوية والمواطنة عن الفكر
والعقل العراقي لسنوات طويلة بفعل السياسات الخاطئة للنظام
السابق، وحتى بعد سقوط النظام، نجد أن تجليات مختلفة قد تلوّنت
بألوان مختلفة مثلتها الانتماءات الطائفية المستندة على قبول
أو رفض ما هو (شيعي أو سني أو كردي أو تركماني) فهذه
الانتماءات العرقية أو الطائفية أو المذهبية نجدها تتبلور
وتعيد أنتاج نفسها من جديد بأطر مختلفة.
وقد تكون هذه
حالة طبيعية أفرزتها المرحلة السابقة بحكم شعور هذه الطائفة أو
تلك بالغبن والدونية في مستوى المواطنة والتهميش لفترات طويلة،
ولكن لا يمكن أن تمضي وتستمر في المستقبل المتوسط أو الطويل,
خصوصاً وأن العراق يشهد مرحلة بناء جديدة ليس فقط للمؤسسات
السياسية والاجتماعية والاقتصادية ولكن مرحلة بناء ذات الإنسان
وقوامه بوصفه كتلة ايجابية بناءة قادرة على التعاطي الايجابي
مع استحقاقات المرحلة الجديدة.
فالانتماء إلى
الدولة ذات البنى والهياكل الدستورية يختلف عن الانتماء إلى
القبيلة أو الطائفة، في أنه يتاح لكل الأفراد متى توفرت لهم
الشروط القانونية والدولة الدستورية التي تسمح بوجود المعارضة,
وكلما زاد نضجها نمت الحريات التي يتمتع بها أفرادها. ولا يعني
ذلك أن مبدأ المواطنة يعني بأي حال إنكاراً للرابطة القومية أو
الدينية أو المذهبية أو حتى الرابطة الطبقية أو الإنسانية التي
تجمع أغلبية أو بعض المواطنين في القطر الواحد، ولكن باختصار
يعني تغليب الولاءات الفرعية أو الثانوية لصالح ولاءات أعلى
تتمثل بالدولة التي تعتبر المواطن جوهر الرابطة الأساسية معه.
وفي خضم العلاقة
الطردية التي تربط بين الدولة والمواطن تتبلور مبادئ أساسية
تتعلق بمفهوم أو مبدأ المواطنة ينبغي التأكيد عليها سعياً
لتنمية وتفعيل هذا المفهوم أو المبدأ منها:
1. استخلاص حقوق
الإنسان الدستورية له طبيعة دينية وتعددية ينبغي الإشارة أليها
عند الأخذ بدستور جديد.
2. يقتضي مبدأ
المواطنة بإبعاده المختلفة (سياسياً ودستورياً وقانونياً
وإدارياً واقتصادياً) أن يركز منطق التعامل في الدولة والمجتمع
على موجبات هذه المواطنة (أي المشاركة والمساواة).
3. تنمية وترسيخ
ما يسمى بثقافة الوحدة الوطنية بين ميادين الشعب وفي عموم
المجتمع.
4. المساواة لكل
فئات المجتمع بغض النظر عن الجنس أو الفئة الاثنية أو الطائفية
واحترام الرأي والرأي الآخر وقبول التنوع.
5. مراعاة
الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي تمكن المواطن من
التعبير عن رأيه ومصالحه بحرية، إذ لا معنى لوجود حقوق قانونية
وسياسية ما لم يتوافر الحد الأدنى من ضمانات ممارستها على أرض
الواقع مثل وجود التقارب النسبي في الدخل والثروة والمكانة
الاجتماعية والمستوى التعليمي وتوفير فرص العمل والتعليم
والرعاية الاجتماعية.
من جهة أخرى، أن
نوعية ودرجة المواطنة في دولة ما تتوقف وتتأثر بدرجة النضج
السياسي والرقي الحضاري كما يتأثر مفهوم المواطنة عبر العصور
بالتطور السياسي والاجتماعي وبعقائد المجتمعات وبقيم الحضارات
والمتغيرات العالمية الكبرى. ومن هنا تحتل قضية حقوق المواطنة
محوراً رئيسياً في النظرية والممارسة الديمقراطية الحديثة، إذ
ينبع مفهوم المواطنة نفسه من الطريقة التي يمنح بها هذا النظام
حقوق المواطنة للجميع، لتحقيق غرض المواطنة وهدفها المتمثل في
تنمية فهم مشترك أفضل بين المتحاورين.
وإذا سلمنا
بأهمية تأسيس مبدأ المواطنة العراقية في إنضاج النخب الفردية
سعياً إلى تأكيد وتعزيز الحقوق الفردية والجماعية للأفراد
والجماعات في دستور يحترم هذه الأفكار ويعمل على تنميتها،
فأننا نتطلع وفي نفس المسار إلى تأكيد الهوية الوطنية التي
تعتبر الرابطة الوثقى والمحددة لشكل وعلاقة الدولة بالمواطن
ذلك أن حقوق المواطنة اليوم أصبحت حاجة ملحة وماسة في جميع
شعوب العالم ومرتبطة أو منبثقة من الحصول على جنسية البلد الذي
ينتمي إليه.
إن الاحتكام إلى
الأسس البنيوية الخاطئة والطروحات التي تراوحت بين الأسس
المستوردة البعيدة عن الاصالة والواقع العراقي كانت وراء تغييب
المقومات الأساسية المتمثلة بالوعي الفكري والسياسي المنتج
للهوية الوطنية والمواطنة بشكل أساس، مما افقد المجتمع قوته
وقدرته على أنتاج الذات الوطنية المعبرة عن أهمية الشعور بمبدأ
المواطنة.
وهنا تصبح
الحاجة إلى تأكيد المواطنة ضرورة أساسية ملحة ملاءمة لكل
الاقيسة العراقية الكلية بعد أن فشلت التجارب السابقة في إبداع
الفكر والطروحات والمشاريع المنتجة للهوية الوطنية بالشكل الذي
تجعل المواطنة والمواطن والوطنية أساساً وهدفاً يبرر وجود
وظيفة الدولة. حيث أن البحث عن الأسباب الموضوعية وراء هذا
التغييب لمفهوم المواطن يندرج ضمن أطر مشتركة تتقاسمها الدولة
والمواطن. إذ ينبغي الإشارة هنا إلى أن عدم الإحساس بالمسؤولية
الفردية أو الجماعية تجاه الآخرين تعتبر من دواعي غياب
المواطنة وينطبق نفس المسار على الدولة تجاه تعاملها مع
المواطن الذي طالما ظلت العلاقة بينهما تحكمها قضية الحاكم
والمحكوم. فالمواطن اعتبر محدود الصلاحيات والواجبات ووظيفته
أطاعة وتنفيذ الأوامر والأحكام الصادرة عن الحاكم بعيداً عن
تأكيد الذات الوطنية.
وهنا فأن مسألة
عدم الإحساس بالمسؤولية الجماعية تطرح إشكاليات مهمة تتحدد في
ضوئها طبيعة وشكل المجتمع ويتحدد على أساسه تكوينات هذا
المجتمع هل هو مجتمع طبقي أم مجتمع متمدن ذات مؤسسات دستورية،
ونوعية التفاعلات السائدة في ذلك المجتمع تفاعلات تعاون أم
تفاعلات صراع وقوة؟.
إن هذه الأطر
والسياسات اللاعقلانية التي تنظوي تحت لوائها المخرجات
الاجتماعية المكونة لحركة المجتمع والدولة تضعنا إمام مفترق
طرق.. يفترض تجاوزها من قبل كافة الصعد الاجتماعية والدينية
والسياسية آخذين بنظر الاعتبار أهمية التكوين الحديث للعراق
بتنوعه الفسيفسائي وضرورة وضع الضوابط اللازمة والموضوعية
للتعامل مع مخرجات الواقع العراقي الجديد بما ينطوي عليه من
استحقاقات جديدة تلعب المواطنة والوطنية الفاعل الرئيس فيها
لتكون عوامل بناء جديدة تنهض بها الدولة الجديدة ذات الدستور
الجديد.
ذلك أن الدستور
العراقي الديمقراطي الجديد ينبغي تضمينه بأسس وأطر جديدة قائمة
على:
1. تجسيد مفهوم
المواطنة في الواقع على أساس القانون الذي من شأنه معاملة
وتعزيز كل الذين يعتبرون بحكم الواقع أعضاءاً في المجتمع على
قدم المساواة بغض النظر عن انتمائهم القومي أو طبقتهم أو
جنسيتهم. وعلى القانون أن يحمي وأن يعزز كرامة واستقلال
واحترام الأفراد وأن يقدم الضمانات القانونية لمنع أي تعديلات
على الحقوق المدنية والسياسية.
2. عدم الجمع
بين أي من السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية في يد شخص أو
مؤسسة واحدة تلافياً لتغييب دور وأهمية المواطن.
3. تداول السلطة
سلمياً بشكل دوري وفق انتخابات دورية عامة حرة نزيهة تحت أشراف
قضائي مستقل وشفافية عالية تحد من الفساد والتضليل في العملية
الانتخابية.
وعليه يمكن
القول: إن أهمية الأبعاد القانونية والسياسية ومكانتها
المركزية في مراعاة مبدأ المواطنة ليست بسبب أفضليتها على
الحقوق الأخرى وإنما يتعدى سبب اكتسابها لتلك الأولوية أهميتها
الذاتية إلى حقيقة كونها السبيل الناجع والضمانة الأكيدة
لتنمية إمكانيات النضال السياسي السلمي لاستخلاص الحقوق
الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي يمكن تحقيقها من خلال
تنمية وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني وهنا تنتقل المواطنة من
كونها مجرد توافق أو ترتيب سياسي تعكسه نصوص قانونية لتصبح
المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات قيمة اجتماعية
وأخلاقية وممارسة سلوكية يعبر أداؤها من قبل المواطنين عن نضج
ثقافي ورقي حضاري وإدراك سياسي ايجابي بّناء.
*
ماجستير/
علاقات اقتصادية دولية |