الانتخابات...جوهر الديمقراطية

 

لا يخطئ من يظن أن مسألة تحديد ماهية الديمقراطية قديمة قدم البشرية ذاتها، وقد تعرض العديد من مفكري جميع الحضارات وساستها لهذه القضية دون الوصول إلى تحديد واضح لها، اللهم إلا إنهم متفقين على أهمية وحيوية الانتخاب كأساس لبانوراما الأداء في هذه المسألة نطقاً به أو تداولاً له، التي ينهض بها النظام النيابي عبر استناده إلى أربعة أركان تتمثل في وجود هيئة نيابية منتخبة، وأن تكون نيابة هذه الهيئة من الأمة لمدة محدودة، وأن النائب المنتخب يمثل الأمة بأسرها، وأخيراً، استقلال الهيئة النيابية عن هيئة الناخبين (53)، وأن يرد البعض قيمة الانتخاب إلى ما تعنيه الديمقراطية عموماً حيث حكم الشعب بنفسه ومن أجله(54). فإن الخصيصة الجوهرية للديمقراطية تتركز على اعتبار الشعب مصدر السلطة يمارسها بنفسه أو بواسطة نواب عنه، ولما كانت الظروف والتطورات قد جعلت الخيار الأول غير ممكن واقعياً.. التجأ الجميع إلى حيث اصطفاء من يمثل الشخصية الجماعية أو يفصح عنها بأجمل صورة وصولاً إلى جوهرها وما يتطلبه من تأطير وإفصاح ومستلزمات قيمية أو إجرائية كالمرونة أو التغيير.. وتلك فواصل بناء للطبيعة البشرية عموماً على حد قول ابن خلدون(55)... فإن البعض الآخر ردّ تلك القيمة إلى ما يمثله الانتخاب كدرب وربما كآلية لترسيخ ظاهرة تداول السلطة التي تمثل بدورها إحدى الدعائم المكونة بوجودها التي تضيف قوة بسلميتها للديمقراطية الحقيقية التي تقوم أساساً على الأداء المؤسسي كخطوة لا بد منها لحيازة أو لتحقيق التطور السياسي والاجتماعي كحصاد للعمل الجماعي وهدفه حيث التحول نحو دولة القانون(56).

ومهما يكن من شأن هذا الجدل، فإن الجميع لم يزل مؤمناً بأن الانتخابات تعد الميعاد الأكثر ترسخاً في الذهن واستباقاً لمراجعة الحال.. وخلق قنوات دعم للعملية الديمقراطية، وتصميماً على تقوية النزعة المؤسسية وبما ينعكس بوضوح على صنع السياسات لا سيما العامة منها.

ونتيجة لذلك، اتفق الجميع على أن نتائج الانتخابات لم تعد تشكل ذلك الهمّ.. بقدر ما تشكل قواعد لبناء الشرعية للسياسات الحكومية وتعطي مصداقية للنظام السياسي حتى وإن كانت المجالس المشكّلة عبرها صورية، وعلى هذا الأساس بدت مسؤولية تنظيم الانتخابات من اختصاص الدولة ليس للسيطرة على موازين القوى وتعليم Remark ظواهر وأطر واقع الخارطة السياسية وتفاعلاتها.. بل لأن الدولة ومن خلفها شخصيتها الرسمية "الحكومة" تريد أن تشارك في صنع النتائج بقدر أو بآخر.. ومتى ما ضبطت السلطة نفسها، تدخلاً ونزاهة، كانت الانتخابات حرة تنافسية تطمئن بنتائجها هواجس الشعب ومطالبه وتصلح من شأن الإدارة ذاتها، وهكذا تبدو الانتخابات "أهم شيء من النظام الديمقراطي"(57)، ولكن ما يثلب ذلك أن الأطر السياسية ليس لديها تحفز متساوي لمعرفة إمكانية تطبيق فكرة تداول السلطة وربما بسبب اختلافها في الاعتياد على العمل في بيئة منافسة دوماً، لذا سنرى جدلها، وهي تتحفز لكسب جولات الانتخاب، لا ينصب على المشاركة السياسية ودراسة اتجاهات تكونّها لدى الجميع.. بل وبسبب تأرجح اتجاهات القياس للثقافة السياسية، ترى تلك الأطر أن مهمتها المستعجلة تكمن في الدخول للسوق السياسي وحجز موقع لها قبل خوض الانتخابات، وهكذا تكون التهيئة للانتخابات أهم وأقسى مرحلة تمر بها تلك الأطر خاصة إذا ما كانت بعيدة عن الواقع السياسي والمحيط الشعبي الذي تعمل فيه، الأمر الذي سيعكس بمضاعفاته جملة من المخاطر ربما تشكل الانتخابات كخيار معّول أو مراهن عليه، ومن هذه المخاطر ما يآتي:

أ- أن تتحول الانتخابات من عنوان لممارسة الإرادة الشعبية إلى مسرح تجريب لمناهج تيارات وجماعات متباينة.

ب- أن تضطر الأطر السياسية إلى تبني قانون للانتخابات يقوم على أساس تصريف شؤون الأزمات.. لا على أساس ترسيخ العملية الديمقراطية.

ج- أن تتحول الانتخابات إلى مناسبة رسمية لتهميش قوى أو تفتيت أخرى نظراً لتعدد الرؤى بشأن نهج الأداء الأفضل.. أو تعدد البرامج المطروحة، وهنا لا يخطئ من يظن أن التهيئة للانتخابات ستكون الذريعة الأكبر لانشقاقات واسعة لأجنحة سياسية ظلت تتحفز لإتمام مطالبها. الأمر الذي يجعل الانتخابات تسير وفق دفقات الاحتجاج لا وفق قوانين الائتلاف والتوحد وتبادل الأدوار(58).

د- أن تتحول الانتخابات إلى عملية لإرباك صياغة أطر سياسية جديدة يكون الناخب فيها هو المركز.. وهو المستهدف بالتغيير.

هـ- أن يتحول التوجه الغرضي للانتخابات إلى مشروع إجهاض لقانونها بحيث يصبح خوضها خياراً ظاهرياً يغري الناخبين للإدلاء بأصواتهم طمعاً في إنجاح التجربة لا تكتيلاً للإرادة العامة التي ستصبح في مهب اجتهادات وإجراءات بعيدة كل البعد عن الانفتاح والإنصاف.

و- أن تكون الانتخابات ميعاداً لتأسيس كيانات وأطر سياسية مرتبطة أساساً بالتحديات التي يفرزها الواقع طالما ظل أدائها بعيداً عن العدل والقياس.. وهذا الأمر خطير جداً تبعاً لما يحققه من تشويه للمدرك الشعبي الذي سيرى بالتمثيل النيابي مرآة مشوهة للواقع الذي يعيش فيه، لذا لا يخطئ من يقول والحال هكذا "أن الشعب يقاتل من أجل أن يحصل على حق الانتخاب وبعد الانتهاء منه يقاتل ضده، خاصة عندما يرى النواب المختارين غير الذين رأهم في أحلامه"(59).

والانتخاب كتدبير سياسي لجأت وتلجأ وربما تحتكم إليه الجموع في بناء أدائها الديمقراطي.. ظلّ بحاجة إلى تكييف قانوني لتوضيح آلياته وموجباته وربما الأهداف التي ينشدها تبعاً لاختلاف الظروف والمطامح على حد سواء، ومن أولى لقطات التكييف ارتباط العملية الانتخابية ابتداءً بثلاث أفكار أساسية وهي:(60)

أ- فكرة الحق، وهذه الفكرة تعتبر بمدلولاتها المختلفة، المرجعية التي يستمد منها الأفراد أو الجموع، السلطة التي لا يمكن الانتقاص من قدسيتها أو التهاون في صيانتها لما تتمتع به من حرمة وإلزام، وهذا يعني عدم جواز تقييد هذا الحق بشروط معينة تحد من استعمال الأفراد له، أي أن الاقتراع يجب أن يكون عاماً من جهة.. ومن جهة أخرى فإن للأفراد كامل الحرية في استعمال هذا الحق أو عدم استعماله بدون جبر أو إلزام بمعنى أن التصويت يكون اختيارياً لا إجبارياً(61) وهذا ما ينبغي تداركه بعيداً عن مؤثرات لا وجود لها ألا في الغيب.. وكأن ضدنا قد توقف عن العمل باتجاه تحقيق مصالحه أو تكييفها ما يأتي به الواقع في القريب العاجل.

ب- فكرة الحرية، ومضمون هذه الفكرة يفصح عنها الأفراد و/ أو الجموع على المكنة التي تسمح لهم الوصول إلى الحد الذي يمكنهم من بناء ذاتهم كحق مشروع والمشاركة في رعاية هذا البناء وقيادته وتوجيهه وفق الرؤى التي يجمعون على صلاحها، وبهذا تعني الحرية احتفاظ الفرد و/ أو الجموع بالحق الذي يجيز له/ لهم معلمة الحياة وشرعنة الوجود أمام الآخرين بمختلف عناوينهم، وبهذا تكون الحرية بمثابة الرخصة التي تجيز ممارسة حق الانتخاب(62). ...والمقدمة اللازمة لتحقيق مهام متعددة يبدو واقعنا بأمس الحاجة إليها لا سيما التراضي الشعبي والدنو من استقلال الدولة في اختياراتها ومنهجها في السيطرة على شؤونها ومواردها وعلاقاتها مع دول العالم، وأصل هذا الأمر، كما يرى الإمام الشيرازي “قدس سره”، أنه يقع ضمن دائرة المركز الشرعي باعتبار الحرية والاستقلال شعاران نابعان من تعاليم العقيدة نفسها (63).

ج- فكرة المساواة- التي تعني التماثل في قابلية اكتساب الحقوق والالتزام بالواجبات، وهي تمثل أس وجذر الديمقراطية لأن عدم العدالة وحكم المبدأ الذي تنطلق منه سوف يٌشكل انتظام آليات ممارستها، ولما كان الانتخاب واجباً عاماً.. فينبغي الانطلاق إليه بخط مشروع واحد متسق تنظمه مجموعة من الضوابط التي تحدد شروط منطقية ومعقولة ليس للكفالة كحق.. بل للدعوة إليه بصورة لا تخل بمبدأ المساواة أمام القانون.. والمساواة هنا لا تعني مساواة مطلقة مجردة بقدر ما تعني تنظيماً للفرص بين الأكثرية والأقلية بتوافق يكون وجوده ضماناً لا بد منه لكل اختيار، تبعاً لما يفصح عنه ذلك التوافق من مصداقية منطلقة من افتراض شرعي عماده، وكما يرى ذلك الإمام الشيرازي “قدس سره”، أن مفهوم المساواة يعتمد على المرتكزات الآتية، (64).

أ- الاخوة الإسلامية.

ب- توفير العدالة الاجتماعية بالمنظور الإسلامي.

ج- لا فضل لفرد على آخر ألا بمقدار إخلاصه وكفاءته في أداء عمل مثمر بنّاء يخدم المجتمع الإسلامي ويكون مبنياً على التقوى.

ويتصل بهذه الفكرة، مبدأ مهم للغاية.. أصطلح البعض على تسميته بمدى حق الانتخاب(65)، وموجبات هذا المبدأ نمت في حقيقتها من تلاقح فكرتي الحق والمساواة.. لتشير إلى ضرورة أن يكون حق الانتخاب واسعاً وشاملاً وذا قيمة سياسية لا تخضع لتقييدات تعسفية في ممارسته بحيث ينطوي على اصطفاء مقصود أو استثناء جبري لأي قسم من المواطنين.

وبناءً على ذلك، وكما يرى الإمام الشيرازي”قدس سره”، لا بد للسلطة السياسية توفير الأجواء الايجابية البناءة لتطوير أبناء المجتمع المسلم ومساعدتهم على المزيد من البذل والعطاء عن طريق التحسين المستمر للأداء السياسي نفسه سواء كان متصلاً بالسلطة السياسية كحكومة أو كمجلس استشاري أو كنشاط أقتصادي أو كمجلس شورى فقهاء وما إلى ذلك من مؤسسات إدارية تحدد الازمان جدوى وجودها من عدمه (66).

وثاني لقطات التكييف تكمن في الارتباط العضوي بين الديمقراطية كفكرة وبين الانتخابات كوسيلة.. ذلك لأن الانتخاب لا يكون معبراً عن روح الديمقراطية ألا بقدر ما يكون وسيلة لمشاركة أكبر عدد ممكن من المواطنين في عملية إسناد السلطة، إذ لا يكفي أن يكون إسناد السلطة إلى الحكم بطريقة الانتخاب ليصبح النظام ديمقراطياً.. بل يجب أن يكون حق الاقتراع عاماً دون أن يكون مقيداً (67)، ذلك الارتباط الذي لم يعد أمراً فكرياً فحسب بل بدا الاهتمام به يمثل جزءاً لا يتجزأ من ضمان الممارسة  بكليتها، فلا يصح أن نطمئن على الغاية الصالحة للديمقراطية دون صلاح الوسيلة الموصلة لها، فالغاية وإن قيل عنها تبررّ الوسيلة، فإن الصحيح أيضاً أن الوسيلة هي الحكم الذي يعبر عن الغاية، وقس حقيقة تلك المقاربة إذا ما علمت أنه لا توجد غاية صالحة دون قيام سلطة عامة.. ولا سلطة عامة دون وسيلة قادرة على تحقيق أهداف الصالح العام، وهكذا يبدو تبادل الأوصاف بين الانتخابات كغاية والانتخابات كوسيلة واضحاً وقادراً إذا ما تم ضبطه على بناء عتبات توجه نحو بناء خصوصية التجربة التي إذا ما أريد لها أن تكون طموحة، فعلى القائمين عليها.. سلطات، أطر سياسية، رأي أن يضمنوا لتجربتهم صيغة المشروع الوطني الذي تمتزج فيه مكنونات الفكرة مع المظهر الخارجي المفصح عنها وبما يجعلها ذات هوية محدودة ووظيفة متسعة لكل الاحتمالات، ومن هنا بدأ البعض يحّمل الانتخابات بعداً فلسفياً بجعلها دعوة للاشتراك في صياغة التأريخ من جديد والاعتراف بسطوته في بلورة التوجه نحو الانتخابات كواجب لبناء الدولة الحديثة المترفعة عن خيارات المحاصصة والعصبية الطائفية والعرقية والمروجة لخيارات التعقل "الدولة العاقلة" المفضية إلى ابتكار الهياكل المصرفة لها(68).

وتواصلاً مع مضمون ما تقدم، تبرز لنا اللقطة الثالثة للتكيف القانوني للانتخابات التي تتعلق برؤى القوى الفاعلة المرشحة لخوضها والخاضعة دوماً لتوجيه المرجعيات الدينية والسياسية خاصة تلك المتعلقة برسم خارطة التوزيع لمواطن الأداء، قوة وضعفاً، أو المتعلقة بتقييم الأسس اللازمة لتأطير التوجه لخوضها وبيان مدى صلاحية البيئة التشغيلية التي تدور في حياضها.. وهوية القوى المتحركة والناشطة... ومقدار تجسيدها للإرادة الجماعية، وأس هذه اللقطة يتمحور حول بناء نموذج تفكير شعبي موحد يصلح أن يكون قانوناً للأداء يردف القانون المنشأ لآلية الانتخابات، وتبرز أهمية أستحضار كنه هذا التدبير في الوقت الحاضر ليس لعدم وجود قانون ينظم الانتخابات لحد هذه اللحظة وإنما لأن التجربة "انتخابات المؤتمر الوطني العراقي" أفصحت وبما لا يقبل الجدل إلحاح العمل بهذا الاتجاه قبل التوجه نحو الانتخابات بكل ما يعنيه من رؤى وجهود لبرنامج توقٍ موحد تأتلف حوله كل الأطر وإن استلزم بعض التضحيات.

اللقطة الرابعة في برنامج التكييف القانوني للانتخابات.. فتنص على ضرورة بناء وإشاعة مقاييس الحكم الصالح والتي يعتمد عليها في تشكيل الرؤية السياسية والقانونية والقيمية للناخبين وبما يؤهلهم وبجد للمشاركة في اختيار الحكومة الصالحة التي تعمل لصالح الشعب.. وتلك مسؤولية الحكومة حيث يتوجب عليها بناء أجندة واضحة لا تقبل الجدل أو التأويل ولا ينالها التلاعب هدفها تحديد الصفات اللازم توفرها لدى المرشحين لتولي الوظائف الحقيقية كدليل عملي يردف ما رسمه المدرك الشعبي بهذا الخصوص.

وإذا كان العراقيون قد أغفلوا هذه الحقيقة في انتخابات المؤتمر الوطني العراقي، فإن الواجب يقتضي بناء برنامج حواري بين مختلف الأطر السياسية لتعميم الفضائل والصفات التي ينبغي توفرها في المرشحين وبما يجعلهم قادرين على تجسيد الإرادة الشعبية للعراقيين، وهنا تبرز أهمية الأخذ برأي المرجعيات الدينية سواءً بصيغة "شورى الفقهاء" التي نادى بها الإمام الشيرازي “قدس سره” أو بصيغة البناء العقلاني الذي لم تفتأ القيادات السياسية المناداة بها وبما يفضي إلى الشرعية القانونية والأدبية للمرشحين قبل خوض الانتخابات بروح تنافسية ودفق حرص عالي المستوى لأداء المهمة على أكمل وجه.

وبذات القدر يمكننا الحديث عن قيمة الانتخابات وتكييفها القانوني في ظل العلاقة بين الناخبين والمرشحين.. ذلك التكييف وإن انطلق من رحم فكرة سيادة الأمة، فإن من الواجب النظر إليه كبناء لوكالة غايتها مجتمعية وظرفها مستمر(69) نظراً لحاجة مجتمعنا بظروفه الحالية إلى خلق وتأهيل ناخبين قادرين على ممارسة دورهم الانتخابي وفق قواعد وضوابط محددة.. ودورهم الحكومي أيضاً لا الاكتفاء بدور محدود يلهثون بعد إتمامه خلف مرشحيهم والحكومة من أجل تحقيق مطالبهم، الأمر الذي يقدم بتوارد مقدماته الشروط الدافعة لأشكال الخارطة السياسة التي لم تزل تعاني من ضعف تكوين وضبط بل وتوليد أواصر الارتباط الدائمة بين الناخبين ومرشحيهم.. تلك الأواصر إذا أوجدت سنكون أمام وضع نضمن فيه عملية تبادل الأدوار بين طرفي العلاقة بكل ما تحققه من وعي لدى الناخبين وتعليمهم كيفية الاختيار للمرشحين بما في ذلك عثورهم على صفات يودون لو وجدت في مرشحيهم خاصة ونحن نعيش في مرحلة تبدل وتغيير ليس على صعيد الأوضاع فحسب بل على صعيد القيادات التي فرضت وجودها في الساحة بسبب هول الإحداث.

ولم يقف شريط التصوير للتكييف القانوني للانتخابات عند هذا الحد.. بل هناك لقطات إضافية يمكننا الإشارة إليها وبعين الحذر، منها أن الانتخابات كعملية تستدعي توفر حريات أساسية ينبغي كفالتها للجميع لكي يتمكنوا من أداء دورهم حيالها بدءاً من حرية الصحافة والاجتماع وتكوين الأحزاب والجمعيات مروراً بالمساواة وانتهاءً بكفالة حرية البناء لمعطى السلامة الوطنية، وهذا الأمر يرتبط أيضاً بمحصلة التلاقح بين أبعاد الديمقراطية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ينبغي تجسيدها في قوانين وضعية تختص في تشكيل الأحزاب وإجماعها على مجموعة من الثوابت القيمية والأدائية.. وبما يتلائم مع وجهة الجميع لاختيار نمط الديمقراطية المفضل حيث الديمقراطية النيابية دون التخلي عن الديمقراطية شبه المباشرة "الاستفتاء، الاقتراح، الاعتراض...الخ"... أو نمط الانتخاب "مباشر، غير مباشر، فردي أو بالقائمة، على أساس المصالح أو الأقاليم، نظام الصوت الواحد أو المتعدد الأصوات، الاختياري أو الإجباري(70)...الخ" أو طبيعة الإجراءات اللازمة لإتمام الانتخاب مثل تحديد الدوائر الانتخابية، حصر الناخبين الذين يحق لهم التصويت وفق صفات مطلوبة تعلن على الملأ وتردف بحملات توعية ودعاية وتهذيب وبما يجعل الجميع تواقاً لرؤية السلطة، وقد نبعت من مصالح مشتركة لا شخصية تولد مؤسسات أداء تدعم الاستقرار السياسي والتماسك الاجتماعي والوطني، وهنا لا بد للأطر السياسية الفاعلة من تجريب خيار الائتلاف لكي تتمكن من عنونة جهدها وبما يخفف عن كاهل مريديها الانشغالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. وحري بنا التذكير بما حققته فكرة البيت الشيعي من أثر في وصف المدرك الجماعي وتحقيق التوازن بين مؤسساته الذي سيكون له عظيم الأثر في خلق توجه مشترك لخوض الانتخابات بوحدة رؤية ووحدة هدف.. لا سيما وأن هذا التدبير لا بد من إتمامه تبعاً لما ينتظر "الشيعة" خصوصاً من برامج أداء موحد وصياغة لمصير موحد في ظل اللامركزية والفيدرالية كما أقرّ بذلك قانون إدارة الدولة المؤقت.

ومن الاجراءات التي تتطلبها عملية الانتخابات أيضاً، تحديد اجراءات التجنس وتوحيدها وفق قانون موحد، تعيين الموطن الانتخابي، دعوة الناخبين وتحديد موعد الانتخابات بيوم معلوم وطريقة محددة بتشريع خاص، تحديد آلية الاقتراع السري كآلية للانتخاب على وفق ما اعتاد عليه الجميع حيث لا حرية بلا سرية، تحديد آلية الاقتراع الشخصي لا سيما للمغتربين والمهاجرين.. فضلاً عن ضرورة اتخاذ الخطوات الأساسية واللازمة لكفالة جدية الانتخاب وكذلك الطعن في صحة عملياته سواءً بتعيين جهات خاصة لتولي هذا الأمر أو إيكاله لجهات قضائية من دون أي تهاون في تجاوزها أو أعتبار مهام تلك الجهات من اختصاص الهيئة المشرفة على الانتخابات.

وعلى ما يبدو أن تلك التحفظات لا تعني شيئاً أمام الهواجس المثارة حول الانتخابات كخيار. ومنها الآتي:   

1- أن الانتخابات ستجري بمرتسمات غائبة عن طموحات العراقيين وخارطة أدائهم السياسي وحتى تركيبتهم الاجتماعية(71).

3- أن الانتخابات ستجري في ظل افتقار حاد لبرامج توعية وتنبيه لأصلح أنماطها، فالأدبيات السياسية وأن أجمعت على أن التكييف القانوني الصحيح للانتخاب الذي لا يمكن اعتباره حقاً أو وظيفة وإنما هو سلطة أو مكنة قانونية تعطى للناخبين لتحقيق المصلحة العامة، فإنها تركت ترتيب هذا التكييف للمشروع الذي له أن يعدل في شروط ممارسته سواء بالتقييد أو التيسير طبقاً لمتطلبات الصالح العام دون أن يكون لأحد أن يحتج على ذلك... نظراً لكونه ليس محلاً للتعاقد، الأمر الذي جعل حق الانتخاب عرضة للسياسات التي تنتهجها السلطة.. فهناك من يجعل الانتخاب مقيداً وفقاً لشروط معينة كتوافر نصاب مالي معين أو كفاءة خاصة أو كليهما معاً في الناخب لكي يتمتع بممارسة حق الانتخاب.. وهناك الانتخاب الحرّ يمارسه الناخب بصيغة الاقتراع العام دون تقييده بشرط النصاب المالي أو شرط الكفاءة، والغرض من ذلك إشراك أكبر عدد من المواطنين في عملية إسناد السلطة.. دون أن يعني ذلك تجاوزاً لشروط السن أو الجنسية أو الجنس أو الأهلية القانونية والأدبية والاعتبار.. الخ.

وتشير التجارب الديمقراطية، تاريخاً وأداءً، إلى أن المجتمعات الطامحة لترسيخ الممارسة الديمقراطية توسلت بنظم انتخاب تبعاً لما تمر به من ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية.. ولمدى تغلغل الروح الديمقراطية في نظامها السياسي وطبيعة التكوين الاجتماعي والتقدم الحضاري والثقافي لشعبها. ومن هذه النظم: (72)

أ- الانتخاب المباشر والانتخاب غير المباشر، وتنطلق فكرة هذا النظام من اعتبار الانتخاب حقاً يمارسه من تتوفر فيه شروط الناخب، فإذا قام الأخير بانتخاب أعضاء الهيئة النيابية مباشرة دون وسيط فإن ذلك يدعى انتخاباً مباشراً.. وعكس ذلك يكون الانتخاب غير مباشر، إذ يقتصر دور الناخب هنا على انتخاب مندوبين يتولون مهمة اختيار أعضاء الهيئة من بين المرشحين، الأمر الذي يرى فيه البعض أقل ديمقراطية من الانتخاب المباشر، لأن من شأن النظام الديمقراطي أن يشترك أكبر عدد ممكن من المحكومين بأنفسهم في اختيار الحكام.

ب- التصويت الاختياري والتصويت الإجباري، فالإجباري ينص على أن كل ممن تتوفر فيه شروط الانتخاب يعتبر ذا وظيفة يلزم القيام بها، ومن ثم يفرض جزاء على كل من يتخلف عن الانتخاب من غير عذر شرعي، أما الاختياري فإنه تدبير متروك للناخب ممارسته.. ومن ثم لا يترتب على الامتناع من مباشرة أي جزاء مادي.

ج- نظام الصوت الواحد ونظام تعدد الأصوات، وفكرة هذا النظام تقوم على أساس محاججة مفادها إذا كانت القاعدة العامة في النظام الديمقراطي تقوم على أساس "لكل ناخب صوت واحد"، فإن هناك دولاً ديمقراطية أتبعت نظاماً يتمتع بمقتضاه بعض الناخبين بأكثر من صوت واحد على أن لا يزيد عدد الأصوات التي تمنح للناخب الواحد على ثلاثة.. وما من شك أن لهذا النظام ما يبرره لا سيما عندما تكون السلطة مصرة على تطبيق العدالة في بيان قدرات الناخبين.. فهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون في قدرتهم على اختيار من هم أصلح للحكم.

د- الانتخاب على أساس المصالح والانتخاب على أساس إقليمي، فقد يقسم الناخبون إلى مجموعات أما على أساس جغرافي حيث يقسم إقليم الدولة إلى مناطق.. يشترك سكان كل منطقة منها في انتخاب حاكم أو أكثر، فتكون الدوائر الانتخابية إقليمية، وقد يقسم الناخبون في الدولة إلى مجموعات على أساس المصالح، فيقسمون حسب حرفهم بصرف النظر عن المكان الذي يقيم فيه الناخب، فتكون الدوائر الانتخابية حرفية.

هـ- نظام الانتخاب الفردي والانتخاب بالقائمة، يقصد بالانتخاب الفردي النظام الذي يقوم فيه الناخبون في دائرة انتخابية معينة بانتخاب شخص واحد يمثلهم في البرلمان، في حين ينصب اختيارهم في الانتخاب بالقائمة على عدة أشخاص ليصبحوا نواباً عنهم، والطريقة الأولى تقتضي تقسيم الدولة إلى دوائر انتخابية صغيرة، في حين أن الثانية تنص على تقسيم الدولة إلى دوائر انتخابية كبيرة وواسعة التي تقوم بانتخاب عدد من النواب، وإذ يمتاز الانتخاب الفردي بالبساطة والسهولة والوضوع في عملية الاختيار.. فإن الانتخاب بالقائمة سيكون عكس ذلك. إذ يجهل الناخب شخصية المرشحين في معظم الأحوال بسبب ضخامة حجم الدائرة الانتخابية واضطراره إلى اختيار قائمة بذاتها دون تغيير كما هو الشأن في نظام الانتخاب بالقوائم المغلقة الذي ينتج عنه خداع الناخب في أحيان كثيرة، ولكن الانتخاب بالقائمة يزيد من اهتمام الناخب بالمسائل العامة ويعمق إدراكه بالمبادئ والبرامج السياسية لمختلف الأحزاب لكي يقارن بينها ويختار القائمة التي تمثل الحزب الأكثر صلاحية من وجهة نظره.

و- نظام الأغلبية ونظام التمثيل النسبي، في نظام الأغلبية يفوز في الانتخابات المرشحون الذين حصلوا على أكثر الأصوات دون سواهم.. ويتوزع الانتخاب بالأغلبية إلى نوعين، الانتخاب بالأغلبية البسيطة التي تتم بجولة واحدة يحسمها من يملك أكبر عدد من الأصوات قياساً لنظرائه.. والانتخاب بالاغلبية المطلقة التي تنص على ضرورة أن يحصل المرشح على أكثر من نصف عدد الأصوات الصحيحة المشتركة في عملية الانتخاب.

وتبعاً لما يؤديه نظام الأغلبية بنوعيه من اجحاف بالأقليات السياسية في الانتخاب، وضعف في مصداقية التعبير عن رغبات الناخبين، أخذت الدول إلى إتباع نظام التمثيل النسبي، وهذا النظام لا يمكن تطبيقه ألا في ظل الانتخاب بالقائمة، لأن الانتخاب الفردي لا يصلح في حالة الأخذ بالتمثيل النسبي الذي نعني به توزيع عدد المقاعد في الدائرة الواحدة بنسبة عدد الأصوات التي حصلت عليها كل قائمة من القوائم المتنافسة، وعليه فإن الأخذ بهذا النظام يحقق العدالة لأن كل قائمة تفوز من المقاعد يتناسب مع عدد الأصوات التي حصلت عليها، وذلك يعكس الانتخاب بالأغلبية الذي يعطي جميع المقاعد للقائمة التي تحصل على أكثرية الأصوات.

ويأخذ نظام التمثيل النسبي في تطبيقه العملي صوراً متعددة منها:

1- التمثيل النسبي مع القوائم المغلقة "وعلى ما يبدو أن هذه الصورة هي التي ستكون النظام الانتخابي الذي سيدلي على وفقه العراقيون بأصواتهم بالانتخابات المقبلة"، وفي هذه الصورة يلتزم الناخب بالتصويت على أحدى القوائم المرشحة دون أن يكون له الحق في إدخال أية تعديلات عليها، بحيث يتقيد بترتيب الأسماء التي تتضمنها القائمة.

2- التمثيل النسبي مع التفضيل... حيث يحق للناخب تغيير ترتيب أسماء القائمة التي وقع اختياره عليها وفقاً لوجهة نظره الشخصية إزاء المرشحين وفي ذلك حرية كبيرة.

3- التمثيل النسبي مع المزج بين القوائم.. فالناخب في هذه الصورة يتمتع بحرية أكبر حيث لا يلتزم بقائمة بعينها ولا يكون له مجرد التعديل أو الترتيب في القوائم.. بل يقوم بتكوين قائمة خاصة به تعبر عن رأيه الشخصي، وإذ يكاد يجمع الفقهاء والمحدثين المهتمين بشؤون الانتخابات على أن الأخذ بنظام التمثيل النسبي المردف بالقائمة سيحقق الكثير من الفوائد لا سيما لتلك الدول حديثة العهد بالتجربة(25)، الديمقراطية ومن هذه الفوائد:

أ- تحقيق نظام ديمقراطي نيابي صحيح، يكون ترجمة صادقة لرغبات الشعب فيمن ينوبون عنه.

ب- قيام أغلبية برلمانية حقيقية تستند إلى إرادة شعبية.. وليست الأغلبية الصورية التي تنتج عن الأخذ بنظام الانتخاب بالأغلبية.

ج- المحافظة على الأحزاب الصغيرة وصيانة وجودها واستقلالها في مواجهة الأحزاب الكبيرة، مما يشجع مؤيديها على الأداء بأصواتهم بعد أن يصيبوا اليقين بتمثيلهم في البرلمان.

د- تحقيق العدالة عن طريق إعطاء كل حزب عدداً من المقاعد يتناسب مع عدد الأصوات التي يحصل عليها.. وهكذا يكون لكل حزب وجود ودور داخل البرلمان.

هـ- خلق معارضة قوية ذات صوت واثر في البرلمان وبما يشكل وجودها ضغطاً ملموساً على الحكومة، لكي تلتزم الموضوعية في ممارستها لسلطاتها.. وتعمل بجدّ وسهر لتحقيق المصلحة العامة.

فإن هذه المزايا، بالرغم من إلحاح كسبها في ظل هذا الظرف، ستغدو عديمة الفائدة وغير واقعية في ظل ما يمتاز به هذا النظام من تعقيد وصعوبة في التطبيق في ساحة كالعراق، زد على ذلك لا يزال العراقيون غير قادرين.. بل وغير مؤهلين للالمام به وبتقنياته الأمر الذي سيزيد من فرص التلاعب في نتائج الانتخابات، وهذا ما لا يمكن الاطمئنان إليه كونه مدعاة لتأجيج مظاهر عدم الاستقرار السياسي، وربما الثبات الحكومي وهما شرطا الازدهار والتقدم.. لتعود دورة الاضطراب والقلق المجتمعي من جديد، وبذلك يضيع الرهان ويدخل العراقيون في دوامة اللاخيار من جديد.

4- إن الانتخابات ستجري في ظل إجراءات تحضيرية مشكوك في مصداقيتها سواء فيما يخص تحديد الدوائر الانتخابية.. وحصرها بدائرة انتخابية واحدة بكل ما يحمله هذا التدبير من مخاطر تفتت وترهل، وربما تهاون السلطة بشأن الارتقاء إلى ما يتطلع إليه الناخبون من أهداف وحرية في خوض الانتخابات والإدلاء بأصواتهم عن ثقة ودراية لمن يرون بهم الأهلية اللازمة للانضمام للهيئة البرلمانية- أو ما يخص الإجراءات التمهيدية لحصر الناخبين في ظل ظروف السيولة القانونية التي تلف الخطوات التحضيرية للانتخابات، وإذ كان هناك أجماع على اتخاذ البطاقة التموينية باعتبارها الوثيقة التي يعتد بها كوسيلة لحصر الناخبين، لا سيما بعد التراجع الرسمي عن أجراء تعداد شامل وعام للسكان في العراق... فإن هذا التدبير معرض للتزوير لأسباب متعددة منها وجود الكثير من الأشخاص الذين يحملون أكثر من بطاقة تموينية.. وتعرض إجراءات إصدارها للكثير من عمليات التزوير.. فضلاً عن عدم مصداقية الاعتداد بها كوثيقة دالة على المواطن الانتخابي شرط البدء بعملية الانتخاب وحصر الناخبين.

ولاجل تحييد تلك الهواجس وتهدئة حدة التحفظات الآنفة، ويجب علنا الجدية في خلق الحوافز لكي يتعلم المواطن معنى الانتخاب كقيمة وكمسؤولية وكممارسة أساسها الحوار وخاتمتها المشاركة في البناء، وهذا المطلب لا يحتاج إلى مؤسسات سياسية بل إلى جهد مجتمعي يشعر من خلاله المواطن بأنه مقبل على عصر الكفاءة وضبط النفس في التعبير.. وتلك مهمة تصل في بعض أجندتها إلى الوصف حيث التربية السياسية بدلاً من الإمرة السياسية، ومتى ما نجحنا في ذلك قد حققنا هدفين في آن واحد.. الأول هو هدف صلاح الحكومة المنتخبة .. التي تعبر عن توق لصناعتها من جديد كمفتاح لهندسة المطالب بدءاً من فرض الأمن والاستقرار وانتهاءً باستكمال السيادة وصيانتها من جرأة القريب والبعيد عليها، والثاني هو القفز بالانتخابات من وصفها كمسألة إجرائية إلى عملية بناء مسيطر عليها.. ومن مجرد أداء ميكانيكي تحت يافطة العملية الديمقراطية إلى جعلها مرآة كبرى ناصعة لرؤية القوة العليا للعراقيين أو كما يعبر عنها بـ "الأنا الجمعية" لهم.

وهنا بدا من الضروري وفقاً لما يراه الإمام الشيرازي”قدس سره”، أن يربى المواطن العراقي على القيام بدوره في العملية الديمقراطية على أكمل وجه، وذلك من خلال تأهيله لحسن الانتخاب "وحسن الانتخاب ليس بالشيء الهين، فإنه بعد الاحتياج إلى الكفاءات الذاتية والكفاءات المنمية يحتاج إلى دقة تأمل وكثرة تفكر ليميز الأرجح من غيره(73).

 

الصفحة الرئيسية | نشاطات المركز | مقالات | عن المركز | بحوث مستقبلية | إصدارات المركز | الهيئة الإستشارية | منار المستقبل | إتصل بنا

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

 جميع الحقوق محفوظة لمركز المستقبل للدراسات والبحوث / 1426هـ / 2005م

info@mcsr.net