الشورى.. كإطار للديمقراطية

 

لا مراء في القول.. إن الشورى التي جاء بها الإسلام، كتدبير سياسي، تمثل أعظم صور الديمقراطية وأسماها.. فهي لم تكن مجرد سطور في القرآن الكريم أو السنة النبوية بل كانت منذ ولادتها حياة عملية عاشها النبي (ص) مع أصحابه في مكة قبل أن يقيم له دولة.. ثم طبقها في دولته بالمدينة...(24)

وهذا أمر ليس بالغريب على الإسلام الذي تكفل بما يمثله من منهاج ذي أصول ومبادئ، إحكام واجتهادات،.. صالح لإدارة شؤون العباد بتكوين نظام سياسي عادل تقدر فيه الحقوق هداية وإرشاداً وتصان فيه الواجبات مسؤولية والتزاما.. نظام استوعب بشموليته جميع الوظائف التي تؤديها الدولة، بل أن الأخيرة وجدت بأحكامه ما يعينها على ضبط تكوينها وضمان صلاحها، بنية وفاعلين، نظاماً وحدوداً، ركائزَ ووسائل تصريف معقولة ومقبولة تفي بحاجات الناس وتضمن الصلاح والفلاح للحاكم والمحكوم.

ولسنا هنا بصدد البحث عن أثر الشورى كمعطى في بلورة مفهوم الدولة الدينية.. التي ينتهي عبرها صراع الطبقات وتحل محله علاقات قانونية محكومة بأوامر إلهية.. بل نسعى هنا، لنجدَّ في بيان أسس الشورى ومفاصلها كمبدأ راقٍ أرسته الشريعة الإسلامية وحرصت على تأكيده كسبيل لا بد منه لمعرفة الرأي الراجح وطريق لاستخراج الخيار الصحيح الذي يجب أتباعه ومنهج مبرهن عليه لاستجلاء الحقيقة التي تلتزم بها الأمة حتى تهتدي إلى الحق وتصل للصواب وتحقق لنفسها التقدم والرقي، يقول تبارك وتعالى في محكم كتابه العزيز )فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك، فاعفُ عنهم واستغفرْ لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (  سورة آل عمران: 159.

ولما كانت الشورى بهذه المنزلة التي مثلت عنصراً من عناصر العقيدة الإسلامية. فالمنتظر أن يكون لها نصيب في تشريعاتها ورسوم العبادة فيها.. ولأجل ذلك جاءت الشورى بمنزلة فرض من فرائض الإسلام.. وربما فرضاً لازماً كالصلاة والزكاة كقوله تعالى )والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمُرهم شورى بينهم ومما رزقناهم يُنفقون( سورة الشورى: 38.

والآية الكريمة، كما يرى ذلك الإمام الشيرازي “قدس سره” أكدت على ما ردفت بالشورى من أمور واجبة منها إقامة الصلاة والإنفاق، فالأولى في المجال العبادي تزكية للنفس وبناء الشخصية الإيمانية، والثانية في الأمور العامة كبناء الدولة ونظام الحكم، والثالثة في المجال الاقتصادي.. وهي ثلاث حلقات مترابطة تمثل أركان المجتمع الإسلامي.

 والشورى بهذا المعنى يتسق عملها مع العدالة الاجتماعية والرقي الحضاري واعتبار كل فرد في المجتمع مسؤولاً ومشاركاً في بنائه، ومن الطبيعي أن الفرد إذا ضمن لنفسه حقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، فلن يتخلف عن المشاركة في كل نواحي النشاط السياسي وغيره، ولن تكون هناك أكثرية صامتة أو سلبية بمثل ما نعاني منه الآن.. بل هناك أداء متكامل لنظام ذي نسغ صاعد ونازل بين الإدارات المحلية.. وأهل التخصص السيادي "أهل الذكر وأولي الأمر" بمختلف الشؤون المتداولة التي تخص الشعب أو الدولة ككل.

والذين تتوفر فيهم الخصال المتفق عليها كما يقول الإمام الصادق (ع) "شاور في أمورك ما يقتضي الدين من فيه خصال، عقل وعلم وتجربة ونصح وتقوى، فإن لم تجد فاستعمل الخمسة واعزم وتوكل على الله" (27).

وإذا كان التطور التأريخي قد ساعد على إيجاد كم ضخم من الاجتهاد الفقهي الذي شكلّ نبعاً غنياً لدى المسلمين، استفاد من العقل في إيجاد الكثير من مقتربات الفهم لظواهر السلطة السياسية حتى بدأ النتاج الفكري الإسلامي بما يتميز به من سماحة وواقعية ووسطية محقاً في ترك تحديد شكل النظام السياسي للمجتمع الإسلامي وفقاً لظروف الزمان والمكان، فمن حق الفرد الاعتراف بمواهبه وحقه المقدس من ثمار عمله وكفاحه..  ومن حق المجتمعّ كسب الفرد وإيجاد سلم متراص ومتسق الدرجات للتضامن والتكافل الاجتماعي، ومن أصل هذا التوازن ظهرت فكرة الشورى التي لم يزل الكثيرون غير بحدودها فهناك من يقصرها على بعض الولايات الخاصة المحدودة تبعاً لرؤية أصحاب هذا الاتجاه، بأن عصر الغيبة الكبرى لا يجيز أقامة الحكم وتعيين الحاكم.. لأن ذلك لو حصل فإنهما يقتضيان ممارسة الولاية العامة والتصرف في أموال المسلمين وأنفسهم بمقتضى هذه الولاية. والولاية عند هؤلاء لله وحده.. ولا ولاية لأحد على أحد. بينما يرى آخرون مشروعية أقامة الحكم الإسلامي في عصر الغيبة لأن الإمام المعصوم قد نصبّ الفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة الكبرى ولياً عاماً.. ولاية تصرّف على المسلمين "ولاية الفقيه" (28)، بشرط، كما يرى الإمام الشيرازي ( قدس)، أن يتوافر الحاكم على أمرين، الأول: أن يكون جامعاً لشرائط الفتوى، وهي العلم بأمور الدين والدنيا، والعدالة، والذكورة، والإيمان.. وغير ذلك مما ذكر في الكتب الفقهية والأصولية. الثاني: أن يكون مختاراً من قبل الناس بأكثرية الآراء، ومثل هذا الحكم هو السلطة العليا في الدولة.

وقد أرست مظاهر هذا التصريف.. مقدمات إشكالية كبرى، ليس على صعيد الرؤى والأفكار فحسب بل على صعيد الأداء وأساليبه.. أهمها تلك التي تتعلق في تحديد فواصل المعنى بين الشورى والديمقراطية. الأمر الذي جعل بعض المحدثين يعطون للشورى مفهوماً كمفهوم الديمقراطية مما يعتبر انحداراً بالفكر الإسلامي وانحرافاً عن حقيقة معنى الشورى في النظام الإسلامي(30)، فالديمقراطية بنظرهم هي النظام الذي يجعل الاكثرية صاحبة الصلاحية في نقض أمورها وإبرائها. أما الشورى فهي لا تعدو أن تكون استطلاع فرد أو فريق من الناس في تفسير حكم شرعي أو فهمه أو اجتهاد في أمر من الأمور في ضوء التشريع الإسلامي، وإذا كان هذا الرأي يقدم قراءة تعارضية بين مفهومي الشورى والديمقراطية، فإن ذلك التعارض أو التصور ينسجم مع القراءة التأريخية للإمام صاحب الشوكة والسلطان التي تختلف جذرياً عن إمامة الشورى ذات الطابع الاختياري والطوعي.. ومع ذلك يبقى هذا التصور وكأنه مقدمة إفقار خطيرة لمضمون الشورى، مقابل ذلك ثمة من يزيد الشورى قيمة شمول لكل المطالب، تبدأ من الفرد فالمجتمع فالقائمين بالأمر في الشؤون السياسية ولسان حالهم يقول إذا كان الخالق عزّ وجل لم يتدخل في حرية البشر في الطاعة والمعصية، فإن من الحمق أن يخضع البشر لواحد منهم ادعى لنفسه ما ليس له من صفات الله... لذا لا بد من أن يقوم البشر بتغييرها في الأنفس من خضوع واستكانة وخوف وسلبية، ومتى ما نجحوا في اختيار ممن تتوافر فيه صفات القيادة يكونوا قد امتلكوا أسباب القوة المعنوية، وهنا يبدو الوصول للشورى نتيجة من نتائج التحريض الإلهي ووسيلة لجني ما تحمله من مكاسب حيث ارتفاع درجة الإحساس بالمسؤولية الجماعية، وضرورة التصدي لها بوضع نظام للشورى قائم على العدل وخضوع السلطة التنفيذية للشعب وتداول السلطة في أطار خدمة الشعب.

فالحاكم الإسلامي، وكما يرى ذلك الإمام الشيرازي “قدس سره”، لا يكفيه مبادئ الإسلام وقوانينه بدون تطبيق مبدأ الشورى الذي هو ركن من أركان الحكم في الإسلام، ذلك لأن الناس عندما يرون أنه لم يطبق قانون الإسلام الذي هو الشورى ينفضون من حوله ثم يثورون عليه حتى اسقاطه، هذا إذا فرض أنهُ حسن الاستنباط وحسن التطبيق وذلك قليل أو يكاد يكون معدوماً، عملاً بالحديث الشريف "إن العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وألا ارتحل عنه" (31).

وعلى وفق ما تقدم، فإن جوهر الشورى بدا متبلوراً في الوصول إلى أداء مقنع للتفاصيل والفروع يقوم بها من يمتلك بالإضافة إلى خصال معينة، عقلاً متزناً ومؤهلاً لكي يعنون النظام السياسي ويدير شؤونه، وهنا يكون المنتخبون وفقاً لهذا النظام ولاة أمر لهم أحقية النظم وإدارة أوضاع المجتمع في حدود أحكام الشريعة السمحاء، وهذا يعني أن الشورى هي نظام ووسيلة لخلق عاملين ساهرين على خدمة التشريع والناس.. وعلى وفق إرادة الناخبين يمارسون سلطانهم بمرجعيتين دينية ودينوية.. ولهم سلطات فرض القرارات والأوامر حراسة للدين وتسييراً لشؤون الدنيا، وهكذا تبدو الشورى وكأنها وازع ديني تكمله إرادة الوجود عند البشر، لتغدو، وكما يرى ذلك الإمام الشيرازي “قدس سره”، مكوناً مجتمعي الدلالة والهدف.. كونها تمثل،(32)الآتي:

أ- مبدأ إسلامي عام لا يختص فقط في المجال السياسي بل حتى في الحياة الأسرية والاجتماعية.

ب- مبدأ للتشاور قائم في الأمور المتعلقة بشؤون المسلمين دون الأحكام الشرعية التي ورد فيها النص.

ج- كلّ له مجالان.. الأول: مشورة الحاكم المسلم للمسلمين في الأمور المتعلقة بهم، والثاني: مشورة المسلمين فيما بينهم على إدارة شؤونهم، فهي دعوة الطرفين إلى الشورى، طرف الحاكم وطرف الرعية.

والشورى بهذا المعنى تمر بمرحلتين،(33) الأولى وهي مرحلة الملاءمة.. أي سؤال الخبراء والمختصين فيما يعرفونه ويختصون به قال تعالى "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون".. والثانية وهي مرحلة المشروعية أي قياس ما ينتهي إليه الخبراء والمختصون وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية والسنة النبوية.

وبالتالي فالنتيجة النهائية التي تتمخض عن المشاورة ليست مطلقة بل يجب أن تكون مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية، وهنا تكمن حجية الشورى(34)، كقوله تعالى )فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ( سورة آل عمران: 159.. وكقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) "ما ندم من أستشار ولا خاب من استخار". وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) "ما استغنى مستبد برأيه وما هلك أحد من مشورة" (35).

والشورى بذلك تكون أكثر سعة وأشمل تعبير من الديمقراطية التي لم تسلم لحد هذه اللحظة من الانتقادات التي وجهت إليها في صميم فكرتها.. فالديمقراطية كمذهب سياسي لم تعد تنال رضى حتى مروجيها ليس كما تأتي به الممارسة العملية من اختلالات بل لأن الفكرة الأساسية لم تعد قادرة على مسايرة التطور المجتمعي وتنامي الوعي بإرادة الوجود، وتبعاً لهذه المخاطر، بدأ البعض، كما تشهد ذلك تجارب وتجارب، بالنفاق السياسي، فلكي يبرر ما يقوم به ويضفي عليه نوعاً من المشروعية أخذ يتكلم عن تجربته وكأنها شورى، مستغلاً ما تعنيه الأخيرة من فن ممارسة السلطة.. تلك الممارسة التي يتجاذبها الشعب والحاكم معاً بحسب ما لديهما من قوة وصمود، وعليه فلا بد لنا من التمييز بين ثلاثة أنواع من الشورى(36) هي:

أ- الشورى الحقيقية للشعب القوي الذي يملك إرادته بنفسه.. فيعين الحاكم ويحاسبه ويراقبه ويعزله ويعاقبه إذا أخطأ.

ب- الشورى الصورية الزائفة لحاكم يدعي التمسك بمقتضياتها.. ولكنه يمارس صراع قوة مع الشعب، وكأن قبضه على السلطة يبيح له التصرف، كما يقول الإمام الشيرازي”قدس سره”، بأموال الأمة ونثرها على المصفقين والمهرجيّن والمرتزقة والإمعات ليسبحوا بحمده في الأعلام.. في الوقت الذي يفتح أبواب السجون لأصحاب الفكر والرأي وينصب المشانق لكل حر.. ظناً منه أن السجون والمشانق ستقمع الصوت الحر والاراده النبيلة (37).

ج- الشورى الاستبدادية لحاكم يمارس الشورى بنفسه ولنفسه، وهذا أمر خطير للغاية.. ذلك لأن الشورى كفرض سياسي لا تعني استبدال قانون الله بأوامر فردية "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" "المائدة:45" بل تيسيراً لتطبيق أوامره وفقاً لرؤى لا تخالف الشريعة وحدودها.

وعليه فإن الشورى هي حصيلة تفويض الله للأمة... وهي أستحضار لذلك التفويض بحيث تكون الأمة في علاقتها بالحاكم مصدر السلطة، ولما كان من الصعب لأمة ممارسة سلطاتها العامة بنفسها وبصورة مباشرة فلا بد من جماعة تقوم بذلك نيابة عنها، وهي التي عرفت في الفكر السياسي الإسلامي بـ"أهل الحل والعقد" أي "أهل النظر الذين عرفوا في الأمة بكمال الاختصاص في بحث الشؤون وإدارة المصالح والغيرة عليها" (38).

وعلى العموم، ثمة أسس مهمة عرفها المسلمون في ممارستهم للشورى والسلطة التي تعتبر الأسس التي تقوم عليها الديموقراطية الآن حيث(39):

أ- عرف المسلمون بوضوح السلطات الثلاثة التي نعرفها في الوقت الحاضر.. التنفيذية والتشريعية والقضائية وعرفوا مبدأ الفصل بين السلطات أيضاً.

ب- إن الحاكم وأعوانه ليس لهم أن يدخلوا الصفات العامة.

ج- عرف المسلمون كذلك السمو بأهل الحل والعقد عن الوظائف وولاية الأعمال حيث يتم فصلهم عن السلطة التنفيذية حتى لا يكونوا خاضعين لها.

د- تعزل الحكومة الإسلامية كلها بعزل رئيسها أما البقية فلا يعزلون.

وإذا كان الالتزام بالشورى يعد فرضاً تعبدياً، فإن ممارستها أفصحت عن جملة من المتاعب والصعاب والعيوب.. والآيات التالية تمثل تحذيرات إلهية من مغبة الأثر الذي تخلفه السلوكيات المختلفة، تشويهاً وتأويلاً، على ممارسة الشورى التي هي أصلاً تتطلب الكثير من المعاناة والصبر والتحمل، خاصة، وأن حقيقة أدائها تجري في مرحلة الانتقال إلى مجتمع أكثر هداية وأمناً، فقد قال تعالى:

* )وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم   ( سورة النساء: 140.

* )يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، أن تَحبط أعمـــالكم وأنتم لا تشعرون ( سورة الحجرات: 2.

* )يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون( سورة الصف: 2.

وإجمالاً ومع تطور المجتمع.. وحاجته إلى وجود منتظمات سياسية تؤدي دورها في معلمة الطريق لإعادة أنشاء الدين واستنهاض المسلمين، لكي يحيوا حياة جديدة يتجاوزون عبرها الحدة والتصلب أو الاستنجاد بالقوة ضد الدولة والمجتمع والأمة، وتكفيرهما تعللاً بالمعاناة والظروف النفسية التي تصل إلى حد تجريم الحكام ونبذهم، نشأت فكرة التحزب الإسلامي(40).. ألا أن ما يؤخذ على بعض الناطقين بها أنهم بلجوئهم إلى النصوص والآيات التي تتصل بمسائل الإيمان والفكر.. دون استحضار أسباب النزول لذا تراهم يوظفونها في سياق آخر، ويحملّونها دلالات لا تتفق مع بيئتها، وفي حال اضطرارهم للتعيين والإيضاح وإيجاد البراهين لا يجدون الا فتاوى التكفير.

ولكي لا نتجنى، يبدو من الواجب التأكيد هنا على رقيّ الظاهرة والنظرة المتقدمة للإمام محمد الشيرازي “قدس سره”، التي أشار إليها في مؤلفاته الضخمة محققاً ومن وجهة نظر إسلامية تسامحية ميسّرة في موجباتها ومستدعياتها وظروف أدائها بل وحاجة المجتمعات لوجودها... إذ أوجد سماحته “قدس سره” علاقة فريدة من نوعها لم يسبقه بذلك أحد من قبل.. مؤداها الارتباط الفكري والأدائي بين الظاهرة الحزبية ونظام الشورى الإسلامي مستنداً في صياغاتها إلى ما أنزل به القرآن الكريم من آيات وما أفصحت عنه السنة النبوية الشريفة فعلاً وقولاً.. والى سِيَرْ آل البيت الأطهار لا ليقيم الحجة بل للتمثل بها جميعاً... ارتباط يقوم على أساس(41):

أ- الإيمان بالله واليوم الآخر.

ب- الأخلاق الفاضلة.

ج- الشورى من القمة إلى القاعدة حتى أن القيادة العليا تتكون من المراجع الذين هم المقلدون للأمة.

د- إطلاق كافة الحريات الفكرية والعملية في جميع المجالات.

هـ- تعدد الأحزاب الحرة السلمية التي هي مدارس لتربية القادة السياسيين.

و- الاقتصاد السليم الذي لا يولد الرأسمالية المنحرفة ولا الاشتراكية الباطلة.

ز- الاجتماع الصحيح الذي يتخذ قوانين الإسلام منهجاً في  العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والعقوبات والقضاء وغيرهما.

ومستدعيات تلك الرؤية تكمن في (42) الآتي:

1- أن وجود الأحزاب السياسية، أصبح اليوم ظاهرة واقعية في كل المجتمعات بل لا تكاد تخلو واحدة منها، والإسلام بما أنه البديل الأفضل عن كافة الأنظمة العالمية.. فلا بد أن تكون لديه وجهة نظر أو طريقة خاصة في استيعاب الأحزاب وصهرها ضمن نطاقه العالمي.

2- أن الإسلام كدين وكنهج وكنظام مجتمعي للغاية والوسيلة، لم يرفض الظاهرة الحزبية... ولكنه دعا وعمل على تهذيب مناهجها وتأطيرها بأطر صحيحة خدمة للصالح العام وسعادة الإنسان، نظراً لفائدتها، وكما يرى ذلك الإمام الشيرازي “قدس سره”، في انتخاب الأصلح، الارتكان لرأي الأكثرية، تهذيب التطبيقات العملية للممارسة السياسية، وأخيراً تحمل المسؤولية السياسية(34).

3- أن الحزبية كظاهرة سياسية تعبر بنسغ وجودها عن عطاء وإنجاز بوسائل تشيع التنافس وتشحذ الطاقات من أجل بلوغ التنوع الفكري والثقافي والعرقي... الخ مداه الصحيح تيسيراً للبناء وتقريباً لحيازة مراتب التقدم.. لذا دعى الإسلام إلى وجوب بذل الجهود اللازمة لجعل تلك الأحزاب منصهرة في بودقة العمل السياسي الذي يتخذ من التشريعات الآلهية.. قوانين أداء وتصريف وحكم.. )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون( سورة المائدة: 44.

ولأجل ذلك يرى الإمام الشيرازي “قدس سره” أن الضمان الأساس لسلمية الأداء الحزبي.. يكمن في أن يتكفل القائمون عليه إدامة روح الإيمان بالله وطاعته والأيمان باليوم الآخر(44).. ذلك الإيمان الذي لا بد له أن يكون ظاهراً كالتزام يدفع عن الأمة المخاطر.. والإيمان بالله سبحانه وتعالى يقف في أعلى درجات الكمال الإنساني.. لما له من تأثير في جعل القيمين على الأحزاب مجبولين لاكتساب الفضائل وإجتناب الرذائل والتضحية بالمصالح الآنية الزائفة كسباً للمصالح الاخروية الآتية.. يدنو القادة والمريدين منها عندما يضحون بكل ما يملكون ويجودون بأفضل العطاء في سبيل تحقيق الأهداف العليا المتمثلة برعاية مصالح الشعب وخدمته من خلال تأهيله للتنافس نحو الخير والفضيلة وصقل المواهب وإظهار الكفاءات.. والاهم الكشف عن مؤهلات الإنسان وتوفير سبل التمتع بها بجو من الحرية التي لا تعرف مبدأ أو شرط، ومن هنا رأى الإمام الشيرازي”قدس سره” بشأن تدبّر الوسائل الضرورية لمعلمة تلك التوجهات، ضرورة الإقرار بالتعددية الحزبية التي إذا ما أصلح حالها وفرت جواً مستقراً مريحاً للمجتمع بخلاف حكومة الحزب الواحد، فإنها تخلق جواً قلقاً مضطرباً يسوده الإرهاب والعنف(45)، تلك الضرورة التي لا تصلح ما لم تكن مقرونة بالتمييز المتنور الذي أبدع في ايراده الإمام الشيرازي “قدس سره”، بين الأحزاب الناشطة خارج البرلمان وتلك التي تنشط بداخله، فالأحزاب الناشطة خارج البرلمان لها تمركز وتماسك أكثر من تلك الأحزاب التي تعمل داخل البرلمان نظراً لأن تكامل مثل هذه الأحزاب- العاملة داخل البرلمان- يبدأ من الأعلى، بينما سائر الأحزاب تتشكل بداية من الوسط الشعبي، أي أنها تقوم من أعماق جماهير الشعب (46).

وتأطيراً لذلك البناء يدعو الإمام الشيرازي”قدس سره” إلى ضرورة تولي الصفوة المختارة من أركان الحوزة تسيير تلك التجارب ونمذجتها، وفي ذلك موجبات تنبيه وشرعنة للعمل السياسي طالما اتخذ من الفلاح والصلاح نتيجة له، فالحوزة هي عصب الدين، وهي التي تقود المسلمين إلى شاطئ الأمن والسلام.. وإلى ما يسعدهم في دنياهم وآخرتهم(47). زد على ذلك أن السياسة موجودة في الحوزة سواء شئنا أم أبينا فـ"القضاء والمكاسب والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" موضوعات سياسية سيكون تداولها وتصريفها خاضع لإشراف "شورى الفقهاء.. أو المراجع" الذين يتولون تحديد مقدار التعاطي السياسي للحوزة العلمية.. التي شهد التأريخ السياسي العراقي وما زال العديد من النماذج المضيئة بهذا الصدد.. ذلك التعاطي الذي سيكون بصيغة تشكيل أو تأسيس أحزاب سياسية حرة تلتزم موجبات العمل السياسي وفقاً لأصول الدعوة الإلهية، وبما يحقق لها قدر أكبر من فرص الإعداد والنمو لتحقيق الأهداف التي تسعى إليها بدءاً من زرع الإحساس لدى المواطن بإنسانيته... وانتهاء بأعمار البلاد، ولما كانت هذه التعددية هي النموذج الذي ينبغي أن يسود.. فإن في ذلك فوائد جمة من أهمها ما تفرضه من تجديد وتبدل في سياسة الدولة بفعل سياسة الحزب الذي سيفوز بالانتخابات وهذا يشبه ما دعا إليه الله سبحانه وتعالى بقوله )وأمرهم شُورى بينهم( سورة الشورى: 38. وشورى الفقهاء، مؤسسة قيادية ترجع إليها الأمة في تصريف شؤونها والتماس أفضل السبل لمعاونتها على توحيد صفوفها وإدارة أهدافها وأمورها حال ذلك حال المسيحيين الذين سبقونا في إنشائهم للمؤسسة البابوية(48).

 وكما قال الرسول الأكرم (ص) "المتقون سادة والفقهاء قادة"، وسر ذلك يكمن في ولادة هذه المؤسسة في رحم فكرة الشورى والمجسد الحقيقي لمقتضياتها فـ"الفقهاء والمراجع يتعاونون مع الحوزات العلمية ومع المثقفين والاخصائيين في كافة الحلول الاختصاصية.. وذلك هو مقتضى الشورى كما قال تعالى "وشاورهم في الأمر" (49). وهنا تبدو العلاقة الموصوفة بين الشورى والظاهرة الحزبية في أوضح صورة سواء بتسهيل الاحتكام إلى الأمة.. أو بتحديد من ينطبق عليهم صفة أهل الحل والعقد الذين يتمتعون بالخصال المؤهلة لأدائهم تلك الوظيفة، والاهم تحديد وصف السلطة المنتخبة مرجعياً التي اسماها الإمام الشيرازي “قدس سره”، بالسلطة التأطيرية "وهي حسّب القانون الإلهي في الصفة الملائمة عصرياً" ولعل أفضل مفصح عنها شورى المراجع "التي لا تحتاج إلى المثقفين الخبرويين لغرض أنهم هم المستنبطون" (50)، التي ستكون في حال اتمامها درباً لتنمية البلاد حاضراً ومستقبلاً طالما ظلت نابعة من صميم الواقع الإسلامي ومتلائمة مع القيم والتقاليد السائدة في المجتمع الإسلامي، ومتناسبة تماماً مع الواقع ومع مقولات علم السياسة لا تلغي دور الجماهير بل على العكس هي تعطيها كل الاعتبار والتأثير سواء عبر تأكيدها على الانتخابات أو على الشورى (51).

ولسنا هنا بصدد الدعوة إلى أسلمة العملية السياسية أو التحقيق في السؤال الكبير الذي بات يلح بطرحه على الجميع.. هل نحن أمام واقع يتطلب منا أقامة حكم إسلامي؟.. بل جل قصدنا بعد أن بينا صورة العلاقة بين الشورى والظاهرة الحزبية، يكمن في أن الأحزاب كمؤسسات سياسية ينبغي لها أن تستظل بالتشريعات والقوانين الإلهية كالتزام ومرجعية، لأنها هي الطريقة المضمونة لمنح الشعوب وسائل النجاة حيث التوحيد والاستقرار والتقدم.. لا السير بها إلى مهاوي الردى، وأظن بعد الذي جرى.. لا تكون هناك فرصة إدراك ألا وتستغل بهذا الصدد... حيث انتخابات مؤسسة شورى الفقهاء من قبل الشعب كخطوة ضرورية في طريق تدرج السلطة إلى حظيرة الإسلام وبالشكل الذي لا يوجد اضطرابا في المجتمع(52)، وتلك مهمة عاجلة ينبغي العمل باتجاهها وتحقيقها لكي تأخذ دورها في ضمان حرية ونزاهة الانتخابات التي نحن كشعب بصدد خوضها تقريباً للأمل الموعود بمجتمع ديمقراطي تعددي.

 

الصفحة الرئيسية | نشاطات المركز | مقالات | عن المركز | بحوث مستقبلية | إصدارات المركز | الهيئة الإستشارية | منار المستقبل | إتصل بنا

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

 جميع الحقوق محفوظة لمركز المستقبل للدراسات والبحوث / 1426هـ / 2005م

info@mcsr.net