مقدمة الكتاب

 

يسود انطباع عام بين المهتمين بشؤون السياسة وخبرائها المحترفين، بأن السياسة ليس لها منهج فاعل ولا نتائج مقبولة أو جديرة بالقبول، ما لم تستند على مرجعية موثوق بها تشجع بانتظام صناعة الخيار بكل ما تحمله من فلسفة وحقوق ونتائج تنسجم مع مصالح وميول الجموع التي عندما تشعر بأنها تمتلك إرادتها وتحس بقبضها على مهاميز الوصول لطموحاتها.. فإنها تصيب اليقين بمدلولات وجودها ولم تعد تشعر بعوز يُشكل أداءها أو يدفعها للتنازل عن أهدافها، دفاعاً وتشبثاً. وهكذا نكون أمام مثابة ترى من خلالها ذاتها وتتطلع لصلاحها وفقاً لمقاصد المرجعية التي تلتزم بها.

ولما كان الالتزام بالمرجعية ومقاصدها يمثل مغنماً ابتدائياً للجموع لكي تحزم أمرها وتتداول وفقاً لمقتضيات الحال، شؤونها، فإن الضرورات المتواترة من "جلب الصلاح ودرء الفساد"(1).. لم تكن، بحاجة إلى تقييم بل إلى تقنين ييسر إتمام تلك الضرورات بكل ما تمثله من مطالب وحاجات، وربما طموحات تلتئم مكونة نسق النزوع لبناء الوجود بأتم صورة.

وأغلب الظن، أن ذلك التقنين هو الوسيلة المفّعلة للإرادة والمؤطرة للوجود، إداءا ونتيجة. ومهما اختلف بشأن توصيف تلك الوسيلة وعنونتها، فإن الشيء المهم هو النظر لأهميتها بكل ما تحويه من قيم وما تكون عليه من وضع لدى الساسة والجموع معاً.

    هذه باختصار الفلسفة العامة للإدارة المؤسسية للجموع "الدولة"، التي إذا ما أريد لها الاستقرار والديمومة وثبات مشروعية البناء، وشرعية القائمين عليه، لا بد لها من خلق تناغم في الأدوار، تبادلاً وتداولاً استيعاباً للمطالب "الحقوق" وبث الوعي بقدسية الواجبات وصولاً إلى خلق نوع من الشراكة في نطاق الحركة والهدف معاً، وهذا المطمح الذي دائماً ما يعبر عنه بالديمقراطية أو الشورى يعتبر الفرض السياسي الأول بل الأصل المرجعي الذي يبقى فيه البناء مرئياً ومحسوباً ليس لرمزيته العالية.. بل لأنه مكمن القياس لكل تجاذب وتنافر بين الوجود، جموع ومعارضة، وبين السلطة.(2)

ولأن طموح بناء الذات حق مشروع لكل الأمم والشعوب كفلته الشرائع السماوية والقوانين الوضعية.. وجد الجميع نفسه أمام تجارب ديمقراطية عديدة تباينت في الصورة واتحدت في الجوهر حيث الدعوة لبناء وتأسيس مجتمع سليم تضمن فيه الحقوق وتلبى الواجبات بشاهد على تبادلية الالتزام بين السلطة والجموع شاهد لا يقاوم بسطوته ألا وهو القانون.

 وإذا كانت ثمة شعوب سبقت شعب العراق في تكوينها لهذه التجربة وممارستها، فإن شعبنا وبعد أن أحس بوجوده، أصبح اليوم أكثر تمسكاً وشعوراً بسطوة الأنا الجمعية.. كونها الضمانة الوحيدة ليفاعة النموذج الديمقراطي الذي كانت ولم تزل الجموع تحلم به حيازة وأملاً.. رغم كل ما جرى ويجري.. لتكون بوجودها أمام استحقاق كبير يمتزج فيه الوصف.. الهدف والوسيلة معاً (3)... أستحقاق بناء الذات وصياغة المستقبل لا الحاضر فحسب. عند ذاك تكون الولادة.. وكأنها المرة الأولى التي يجد فيها الشعب العراقي نفسه.. مقدماً الدليل على قدرته بمزج خياراته الأزلية حيث الوجود.. مع الآمال حيث صناعة النموذج "الدولاتي" الذي سيكون له شأن المنتج لأشعاع الديمقراطية في المنطقة، فهل نحن جديرون بصناعة هذا النموذج.. والأهم كيف يمكن للعراقيين تحقيق ذلك الحلم على أرض الواقع، فروضاً ومتطلبات.. خيارات واستحقاقات ونحن على أعتاب خوض أسماها قيمة... وأشدها أثراً "الانتخابات".

ولن تكون الإجابة على هذه التساؤلات مقنعة ما لم تكن دراستنا نقدية استشرافية.. لأننا نؤمن بأن نقد الحال يمثل درباً للإصلاح وعودة الطموح بكل ما تستدعيه من استحضار لوسائل الأداء وأدوات البناء وإبداع لها.. أو على الاقل رؤية متحدة لها، وما أحوجنا لذلك نحن العراقيون، حالاً ونطقاً. كيف لا ولا أحد منا، بعد الذي جرى، يمتلك قدرة البت بما سيحل بالعراق وما ينتظره كدولة وكشعب وكفاعل إقليمي نظراً لتداخل الرؤى المصرّفة لكل دالة. الأمر الذي يجعل أعمالنا وأهدافنا مجرد آمال نسعى لترويجها ونحث النفس على إيجاد مخارج تصريف مقنعة لها.. حتى إذا ما تراخينا في ذلك نسارع لنلقي اللوم على الزمن الذي بتنا في خلاف مزمن معه، فمهما بذلنا من جهد وعطاء وملاحقة، يبقى الزمن بعيداً عنا. ليس لأننا متواضعو الإرادة والإمكانية.. بل لأننا متواضعون في إدارة تطلعاتنا وآمالنا.. وهكذا يبدو من الطبيعي أن يكون زمن التغيير ثقيلاً علينا.. حتى بدا وكأنه العدد الأول والأخطر في مرحلة ما بعد التغيير سيفوق بحجم خطورته كل التوقعات (4). 

وفي ظل غياب الوعي بما فقدوه.. عاد العراقيون بسياساتهم وكأنهم شعب لم يصادف بحياته أن أرسى نظام دولة وقانون، يلملمون ما بعثره التغيير وعناوينه ويستجدون الأمن والاستقرار عبر دروب تنفي بالتمام ما رصفه التغيير من نتائج على أمل تحقيق ظفر مؤقت على الزمن ليضيعوا، وبإصرار، جدوى التغيير عبر تهاونهم في إبداع رباط بين الإرادة والسلطة، تتلاقى عبره الإرادة ومطمحها بمهمة السلطة بتدابير هدفها تسويغ الإدارة بالحكمة، طالما بقيت تلك الوظيفة مجسدة لكَنَه الممارسة الديمقراطية أو مستنجدة بها.. ولهذا فإن من أولى أولويات التهيؤ للانتخابات هو وضع طريقة سلمية لإتمامها في إطار عملية ديمقراطية موثوقا بها، أن يتوفق العراقيون في إيقاف استدارة الضد التي يمارسها الزمن عليهم وأن يرتقوا إلى مستوى الخطب الذي يمرون فيه خاصة وأن العملية الديمقراطية بكل ما تستدعيه وما تقرره، تعتمد في نجاعتها على مقدار ما يحققه العراقيون من نجاحات في هذا المجال(5).

وإذا ما حسمت الجموع أمرها وكتلت جهودها لمعرفة ما هي فيه.. وما ينتظرها.. فلا بد لها من التسلح بموجهات فعل.. حواس توجه.. وهنا تصبح القيم والالتزام بها لا سيما الإسلامية منها هي المرجعية، ديناً واجتهاداً، وهي المعين ليس لما تتمتع به من فضيلة.. وليس لقصور القيم السياسية المتداولة في الساحة، بل هي الحكم الفاصل والشاهد النزيه والمظهر للبراءة من واقع مختل.. والأهم هي المستودع الذي ننهل منه، إدراكاً ومعرفة، فواصل التحكم بمسيرتنا تجاه تأسيس نظام سياسي ديمقراطي، وهنا لا بد من التأكيد على أن الحصيلة النهائية التي نتطلع إليها لا تنحصر في الخروج من "وبالانتخابات بأنصع صورة وبأكثر حصاد من الفرص" بل نجعل من الانتخابات دعامة لما نبغيه من الوصول لنظام سياسي تعددي يعترف بالآخر ويحمله مسؤولية مبادلتنا سلمياً، المطالب والتوجهات والمقاصد، وأي حياد عن هذه المهمة المزدوجة.. إنما هو فهم ناقص ووحيد الجانب، صحيح أن قيمة المشروع الديمقراطي لدينا لم تتبلور بصيغتها التامة لأن فاعليه لا يزالون أنداداً.. إلا أن جنس العلاقة بين الفاعلين يبشر بأكثر من أمل وشرعية ومصداقية.. ويكون شاهداً على بزوغ زمن التنوير للجموع... لا مجرد برامج همها حجز مقاعد السلطة.

ولأن الزمن لم يعد ساكناً.. فلا بد لنا من مشروع ديمقراطي لا يحتوي ما نبغي إليه فحسب.. بل يستوعبنا ككتلة دائبة المسير.. تداؤبية الفعل.. مشروع جلّه دعوة للتمسك بالهوية الوطنية وصيانة الوطن.. وترسيخ سطوة الشعور بالمواطنة.. مشروع قواعده ليست قانونية فحسب بل معتركاً تتلاقح فيه الآراء والرؤى والاتجاهات وصولاً لصياغة مطلق مجمع عليه لا تنال منه نسبية الموقف أو طموحات عناوين بعينها.. مشروع يقوم ويحيا بتمسكه بالحوار دستوراً لا حياد عنه.. ليصبح وجوده مكسباً مضاعفاً لا عبئاً ينال من نزوعنا للتقدم والتمدن. ويصبح مجرد آلية تصريف المطالب فحسب، تختفي عندها الروح والإحساس بها والامتثال لموجباتها كما هو الحال في الديمقراطيات الغربية.

 وتأسيساً لما تقدم، تصبح الديمقراطية نوعاً من الاصطفاء المجتمعي.. الذي إذا ما نجح شعبنا في بلورة قوانينه العاملة ليصبح تقليداً حياتياً وعنواناً للتفوق على الذات.. فإننا نكون أمام عقد اجتماعي جديد ليس همه تبرير الشرعية.. بل صيانة الهوية وصياغتها من جديد، عند ذاك سنكون.. وكأننا محملين بمهمة استراتيجية القصد منها إعادة كتابة تأريخ وجودنا.. وهذا هو جوهر الاستحقاق الديمقراطي (6).

والباحث هو يتصدى لموضوعة الدراسة بشمولية ورؤية مجتمعية لا يتوانى من إتمام هدفه متلمساً الاستنجاد بناصيتين منهجيتين:

أولاهما: الرصد لما يحويه الواقع العراقي من وقائع، وما يشهده من أحداث وحوادث شاركت في صياغته.. وربما تنتظره لتشكل المسار المطروح لصياغته من جديد.

ثانيتهما: متابعة حيثيات الأداء السياسي العراقي.. وهو أداء تتدخل في تشكيله فواعل، أقليمية ودولية، قوى ومنظمات، تحد من الحماسة الوطنية لطمأنة الشواغل على عكس ما تراه الغالبية من كونها تمثل مسرعات ابتدائية محفزة لإتمام وعي العراقيين بنجاعة، توجههم نحو الديمقراطية كتدبير وكخيار مصيري.. وهذا بمجمله سيشكل محور التضاد بين المؤسسات القّيمة على شؤون الانتخابات.. وما يضمه الشعب العراقي من أطياف لها آمالها التي لا يمكن أخفاء بعض نقاط الخلاف بينها وبين النموذج الأدائي لممارسة الانتخابات ونتائجها.. وهذا ما ظهر جلياً في انتخابات المؤتمر الوطني العراقي... وحيثيات التهيئة للانتخابات التي بدا زمنها وأداؤها مربوطاً على ما يقرره المؤتمر الدولي المزمع عقده في نوفمبر2004 في القاهرة.

 

الصفحة الرئيسية | نشاطات المركز | مقالات | عن المركز | بحوث مستقبلية | إصدارات المركز | الهيئة الإستشارية | منار المستقبل | إتصل بنا

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

 جميع الحقوق محفوظة لمركز المستقبل للدراسات والبحوث / 1426هـ / 2005م

info@mcsr.net