مقدمة المركز


دولة القانون هاجس من ورائه طموح كبير ظل يراود العراقيين لعدة عقود، كحق في تقرير مصيرهم وبناء دولتهم على أساس ديموقراطي يضمن كامل حقوقهم، وينتزع من نفوسهم ما غرس من العنف والاضطهاد، ويفتح سبل الخوض الشريف في العمل السياسي النزيه القائم على أساس تعددي واحترام للرأي الآخر، فضلاً عن الإحساس الجدي بالإنسان باعتباره الهدف لهذه العملية وبالإنسانية التي جبلت عليها النفوس منذ بدء الخليقة. 
لكن الوصول إلى هذا الطموح _ دولة القانون _ شائك في طبيعته، لا تتناغم معالجاته في ظل القهر والتعصب وإلغاء الآخر، فتلك شريعة الغاب وديدن الأغراب عن الدين والعلم والادعاء بالحضارات، فينبغي أن يسبق هذا الطموح بناء نفسي يتكيف مع مفهوم الديموقراطية الشائع صيتها بين العراقيين التواقين إلى ممارستها بعد إحجام قهري لحرياتهم المستيقظة على مخلفات صراع السلطة الدامي والمجتمع المتأزم بألوان حالات التخلف بدءاً من أبسط الحقوق وانتهاءً بسلب الحق من ممارسته للعملية السياسية التي تقرها الأديان والشرائع.
إننا بحاجة قبل كل شيء إلى بناء الإنسان العراقي قبل اللجوء إلى الديموقراطية والمطالبة بممارستها. خصوصاً أن الديموقراطية لها أوجهها المتباينة على وفق طبيعة المجتمع، وهي تتراوح مابين المجتمعات الديموقراطية إلى الحديثة ومروراً بالتي تتوسطهما.
إن للتوعية والتثقيف دوراً بارزاً في التغلب على الكثير من الإشكاليات التي ستبرز على  النسيج الثقافي للمجتمع الجديد، وسيكون للمفاهيم خطورتها في طريقة العرض ورسم المواقف على كافة الصُعد، وسيُكتب للمفكرين والأكاديميين والمثقفين دوراً تاريخياً في تحديدهم جادة الصواب في مختلف الممارسات علاوة على المسؤولية التاريخية التي تعبر عن الوفاء للعراق والعراقيين، كما تعبر عن طبيعة الهوية التي استظلّ بها أصحاب العلم والمعرفة وانعكست على طريقة الوفاء لوطنهم وشعبهم. وربما كانت للمثقف أزمات نفسية، اجتماعية، فكرية ارتسمت على خلفيته الفكرية أو المرجعية مما سيؤثر على السلوك الفردي والجمعي وربما أضر من ورائها بالحياة ومصير الكائنات. لكن لكل فرد في المجتمع شعوراً وإحساساً ومقدار استيعاب يضمن حيزاً من السلامة لكنها لا تشكل حماية نفسية أو فكرية، فترى التقلبات واتباع الرغبات واتخاذ المواقف في غير مجالها، وقد تتخذ أشكالاً دخيلة على المظهر الإنساني والسلوك الفردي وربما الجمعي. كل ذلك ربما يفسر بشكل أو بآخر بأنه من مظاهر الديموقراطية وحرية التعبير وإبداء الرأي إن لم ترفع راية الدين أو الوطنية و ما شأت أن تُرفع من (يافطات) غاياتها ذر الرماد في العيون أو صناعة الحدث وتأزم الأوضاع.
ولأن العراق بحاجة إلى الانتشال وليس الانغماس في مستنقع الجريمة، السرقة، الخوف، الاستبداد في الرأي، التحريض على التشتت، كبت الحريات، وخنق الأنفاس، وأن التشكيك سيسري لا محالة إلى النفوس، والذات والهوية، وسينطوي على الخداع بلا شك، مع إننا  من ارض الحضارات ومنبعها وأرض الأنبياء والأئمة والصالحين! إن حاجة العراق هذه ستكون من أولويات الخائضين للعمل السياسي ومن ورائهم أصحاب الفكر والثقافة، وسينسحب الأمر إلى عموم الناس وإلى كل بيت وبالتالي هي مسؤولية مشتركة على الرغم من التنوع العرقي والطائفي والديني.... 
إن لاختلاف وجهات النظر ميزة التحضر والقدرة على التطور والتطوير وبلوغ الأهداف بأقل الخسائر وهي بذاتها تعبير عن الجوهر الفعلي للممارسة الديموقراطية من خلال التعاطي والقناعة بالشراكة الإنسانية في بناء حضارة بمفهومها الواسع المنضوي تحت رايتها سيادة الإنسان على الأرض كحق يضمنه له سيادة القانون.
لا غرو بعد ذلك في أن أول لبنة في تحقيق هذا الهدف ستكون من نصيب الإنسان، لما له وما عليه من استحقاقات تجاه دينه ووطنه وما يعتقد به، ولكونه حراً ولا حق لغيره عليه إلا ما فوضه  سواء الشارع المقدس أو ما اعتقد به، كان الهدف والوسيلة هي الإنسان المسؤول عن اختياره لطبيعة النظام الذي سيركن إليه بكل ما امتلك من طاقات وقدرات سيسخرها لمن اختاره شريكاً في تحمل هذه المسؤولية التي ستتمثل بالعملية الانتخابية التي وعد العراقيون بها مع بدايات عام 2005، ومن هذه المسؤولية تترشح الحاجة الملحة إلى التوعية والتثقيف حول الانتخابات، لأن انتظارنا  للانتخابات كخطوة نحو تحقيق الممارسة الديموقراطية يتوقف على مدى فهمنا واستيعابنا لها، لأننا سنبني آمالاً وسنحاول الاستفاقة من الحلم الطويل إلى واقع ينتظرنا ونحن صانعوه بلا شك.
إن مصدر القوة في الانتخابات هو الشعب لما يفهم من أن الانتخابات هي اللبنة الأولى في الممارسة الديموقراطية، وكون الأخيرة ترتكز على أن الشعب هو مصدر السلطة التي سيمارسها بنفسه، إذن هي ممارسة معبرة عن الإرادة الشعبية، وبالتالي سيأخذنا المطاف إلى حتمية الحاجة لثقافة الانتخابات دون أن ننتظر ما ستفرزه الانتخابات، وحينها لا مناص من قبول النتائج. إن السلطة بحاجة الى أن تستمد شرعيتها ممن يفترض أن يخولها حق التعبير عن المواطنين وتمثيلهم في مدار مصالحهم، ويسبق هذا الاستمداد مطلب جمعي متفق عليه بأكثرية الآراء حول طبيعة السلطة المخولة. فحين يتفاعل أبناء الوطن مع هذا المطلب الجمعي؛ عندئذ يمكن القول بأن تغيراً حقيقياً يسير على طريق الديموقراطية. ومن هذا نقول نحن من يريد صناعة الديموقراطية أو وأدها.   
إن الانتخابات بحاجة إلى:
1 ـ تثقيف الناخبين، فكل نشاط تثقيفي يقام في فترة الانتخابات يهدف إلى التشجيع على الانتخابات وتعزيز الديموقراطية، وهذا يجري في أثناء الاستحقاق الانتخابي وفي سياق سياسي، وهو لا يمكن أن يحل محل تخطيط انتخابي جيد، ولا يحل محل تطبيق آليات سياسية عادلة وديموقراطية. إن مختلف تقنيات الاتصالات والإعلام والتثقيف متداخلة في هذا المضمار  ومكملة لبعضها، ومما يجدر ذكره أن لكل بلد خصائصه الذاتية، وكل انتخاب يجري في سياق اجتماعي، واقتصادي، وسياسي وثقافي خاص، وهذا السياق يحدد اختيار الرسائل التي سيتم بثها، والطرائق المستخدمة والكوادر البشرية اللازمة.
إن جميع المؤسسات التعليمية والعلمية والفنية سيكون لها دور المساهمة في نشر ثقافة الانتخابات، فالجامعات والمعاهد والمدارس ستكون مكاناً صالحاً في نقل رسالة الانتخابات إلى الطلاب وتدريبهم على هذه الممارسة الديموقراطية ابتداء من إعداد سجل الناخبين وانتهاء بفرز البطاقات. فإن كان هذا كله تدريباً عملياً علمياً كان الأجدر بحملة العلم نشر الوعي الديني والوطني تجاه بناء عراق حر جديد.
2 ـ المشاركة الشعبية الواسعة المعبرة عن التفكير الموحد أو المتقارب لأبناء البلد، فإن حق جميع المواطنين في المشاركة في شؤون حكمهم، هو حجر الزاوية في الديموقراطية، ولعل شكل المشاركة الأكثر جوهرية هو  حق الاقتراع في انتخابات حرة وعادلة.
3 ـ التعبير عن رأي الأكثرية التي تدلي بأصواتها في الانتخابات، فممارسة القمع ومحاولة تكميم الأفواه لا تعبر عن انتخابات نزيهة وحرة، بل تناقض التوجه نحو التعددية.
4 ـ تنظيم أمور الأحزاب من خلال:
أ) تكافؤ الفرص.
ب) حرية التعبير، إذ يجب أن يكون المواطنون والسياسيون أحراراً في التعبير عن آرائهم.
ج) الاحتراز التزوير والممارسات غير المشروعة.
د) المشاركة في الحياة السياسية.
هـ) تجذير الممارسة الديموقراطية داخل الأحزاب.
و) الشفافية.
ز) التشجيع على التعددية داخل الحزب الواحد.
5 ـ وجود قانون وأنظمة للانتخابات تكون الضابطة لخوض العملية الانتخابية إذ تعتبر من أساسيات الانتخابات الحرة وأن عدالتها وفاعليتها تتوقفان على ملائمة هذا الإطار التشريعي. ولكي يكون النظام الانتخابي حراً وعادلاً؛ ينبغي أن تتوافر فيه الشروط التالية:
أ) أن يتمتع جميع المواطنين بحق الاقتراع والمشاركة في الشؤون العامة.
ب) يجب أن تجري الانتخابات ضمن احترام الحقوق الأساسية للمواطنين.
ج) يجب أن تضمن إجراءات الاقتراع حرية الاختيار، وسرية التصويت، وصحة فرز البطاقات.
د) يجب أن تمارس مراقبة العمليات الانتخابية هيئة انتخابية مستقلة عن بقية سلطات الدولة.
6 ـ وجود نظام انتخابي، وهو مجموعة أحكام تنظيمية لها تأثير مباشر في تحويل الأصوات إلى مقاعد. كما يمكن أن تؤدي الأنظمة الانتخابية دوراً حاسماً في مجرى الحملات الانتخابية وتصرف النخب السياسية، إذ تساهم في تجديد المناخ السياسي العام، فهي يمكن أن تشجع أو تأخر في تكوين تحالفات بين الأحزاب كما يمكن أن تحفز الأحزاب والجماعات على امتلاك قاعدة واسعة وإبداء نزعة توفيقية، أو على العكس، يمكن أن تستثير شعور الانتماء الإثني أو العائلي أو غيره مما قد يؤدي إلى استخدام مفرط للمطالبة وربما أدى إلى العنف.
وأمام القارئ في هذا الكتاب محاولة للبحث عن (الأنا الجمعية) و(الذات) كمفردتين فاعلتين في الحياة السياسية منوط تأثيرهما بالممارسة الديموقراطية المعبرة عن الرغبة في بناء الدولة وتحسين الأوضاع السياسية. وهي محاولة تمزج بين الإصرار على إجراء الانتخابات على وفق الوضع السياسي الملموس على أرض الواقع، وبين الفكر المرجعي الذي يقدمه الباحث في رسمه المشهد الناصع في مسيرة الإنسان العراقي التغييرية من خلال العلاقة الفريدة التي مؤدّاها الارتباط الفكري والأدائي في انتخاب الأصلح. وفي سياق قراءته للواقع يتطرق الباحث إلى أوجه الخلاف والتعويق والتحفظات المثارة أمام العملية الانتخابية ومقتضياتها، ليردف القول بأن الانتخابات (عملية مجتمعية تشترك في صياغتها جموع الشعوب بكل ما أوتيت من قدرات وخيرات ومطامح، لأنها هي صاحبة المسؤولية الأولى والأخيرة في العملية الديموقراطية ونجاعتها).       

الدراسة
عندما يفرض القدر علينا أن ندخل التاريخ من جديد. فأول ما يصادفنا هو الاحتكام للإرث الذي تركه أعلام الأمة ومراجعها العظام.....
فكيف بنا ونحن أمام معجزة وصفت لنا ذلك الدخول ومرجعياته قبل أن نفكر به !

الباحث
بغداد/نوفمبر 2004

 

الصفحة الرئيسية | نشاطات المركز | مقالات | عن المركز | بحوث مستقبلية | إصدارات المركز | الهيئة الإستشارية | منار المستقبل | إتصل بنا

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

 جميع الحقوق محفوظة لمركز المستقبل للدراسات والبحوث / 1426هـ / 2005م

info@mcsr.net