الأنظمة السياسية... البدايات والنهايات

 

 

لطيف القصاب

 

من الحقائق السياسية الواضحة ان هناك العديد من الدول في العالم تتماثل أنظمة الحكم فيها الى حد بعيد من الناحية النظرية لكنها تبقى مع ذلك في منتهى الاختلاف بملاحظة وجود او عدم وجود تطبيق فعلي لأحكام النظام السياسي قيد المقارنة والمقابلة.

 في عراق ما قبل التغيير كان البلد في بعض الأحكام القانونية النظرية المتعلقة بحقوق الإنسان كثير الشبه ببعض النظم العالمية المتقدمة، غير أن الواقع كان يؤكد في كل لحظة كون العراق من اشد بلدان العالم انتهاكا لهذه الحقوق.

وبعد التغيير حظي العراق بنظام حكم برلماني يشبه الى حد ما النظام السياسي البريطاني، لكن المعنيين بدراسة النظم السياسية –وبعضهم من غير ذوي الأغراض- ما يزالون ينظرون الى التجربة السياسية العراقية المعاصرة نظرتهم لطفل يحبو قياسا بالتجربة البريطانية التي تبدو بحسب اؤلئك الدارسين مثل رجل مكتمل النضج والادراك.

ترى ما الذي يجعل نظاما سياسيا يبز نظراءه الآخرين من حيث حسن ادارة مجتمعه والارتقاء بأبنائه، هل السر يكمن في طبيعة كل مجتمع انساني ام في حداثة التجربة ام ماذا ؟

من يذهب الى تدعيم فرضية ان المجتمعات تتفاوت في قدرتها على حكم انفسها مع استنادها جميعا إلى بيئات سياسية وقانونية متماثلة لايمكن له أن يستند في اقوى حججه إلا على فرضيات عرقية وقومية مشكوك بسلامتها ومقدوح في علميتها.

 كان موريس دوفرجيه يقول في كتابه مدخل الى علم السياسة ما مؤداه ان الايدلوجية الشيوعية نمت وازدهرت في الاتحاد السوفياتي بينما واجهت الفشل والاخفاق في الصين بسبب ليبرالية الحياة في روسيا وما حولها من جانب، واحتكام الشعب الصيني الى نظام الاسرة الصارم من جانب آخر، فطبيعة المجتمع السوفياتي المنفتح والمتحدر في غالبيته من أصول أوربية جعلته يُقبل على اعتناق الماركسية السياسية والاقتصادية ويشتق منها مناهج علمية اسهمت في توسيع رقعة وآفاق المعرفة الإنسانية، وانكفاء الصينيين الاسيويين على قيم كونفوشيوس الاخلاقية البالية، هو من ازرى بالتجربة الصينية.

ترى لو كان دوفرجيه ما يزال على قيد الحياة هل سيظل سادرا في قراءته المحدودة تلك ام انه سيطأطئ براسه على عتبة العملاق الصيني الكبير؟

 وعلى اية فما يزال العلم يثبت في كل يوم ان الإنسان هو الإنسان حيثما كان سواء من عاش في حواضر اوربا ومن استوطن صحارى آسيا، وغاية الاختلاف بين مجتمع وآخر لا تعدو حدود التربية بكل انواعها ومنها التربية السياسية التي لا سبيل الى إنكار تأثيرها الواضح على ارتقاء المجتمعات وانحدارها.

 ولكن ما بال التربية السياسية العراقية لم تؤت اكلها الطيبة حتى الان، هل لأنها لم تبلغ سن الرشد وما تزال في طور الطفولة فحسب أم أن القيمين عليها هم الذين لم يغادروا حتى الان طور الطفولة السياسية بعد.

 الإنصاف يقتضي منا القول بان المؤسسات الرسمية التي تشكلت بُعيد سقوط النظام السابق لم تصل حدود الكمال والتمام، وما يزال يشوب الكثير من مفاصلها عوامل الوهن والجمود ويسود أجواءها التوتر والاضطراب، ولم تتوضح حتى الآن خارطة الحدود التي تفصل بين السلطات الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية، لكن كل ذلك لا يعني البتة عدم أهليتها لحكم البلاد في فترته الراهنة على الأقل وإمكانية إصلاح مواطن الخلل فيها مستقبلا.

على أن نظرة منصفة لواقع حال النظام السياسي العراقي الحالي وبكل ما تعتريه من سلبيات ترجح كفته على من سواه في نطاق جيرانه حتى أولئك المتشدقين بالقوة والمنعة ومع هذا البيان فإننا لا يمكن أن نضع حجر الفشل في زاوية المنظومة السياسية من حيث كونها تمثل البرامج الصلبة في لغة الحواسيب وعلينا تصويب النظر تجاه البرامج الناعمة أي في الموارد البشرية التي تتبوأ مناصب القيادة العليا في مؤسسات الدولة العراقية.

صحيح أن النظر إلى الأمور بواقعية يستدعي الإقرار بحقيقة أن الأحزاب السياسية بطبيعتها تتشكل لأجل الظفر بالسلطة والنفوذ سواء الأوربية منها أو الأسيوية وغيرها، بيد أن حال الأحزاب يختلف حتما من منطقة إلى أخرى بمراعاة الظروف الداخلية والخارجية.

 وبقدر ما يتعلق الأمر بالعراق فانه لا أجمل من منظر سقوطه سياسيا في عيون خصومه الخارجيين لاسيما أخوته الأعداء، وليكن حاضرا في ذهن الجميع إن اهتمام الطواقم الشاغلة للكراسي السياسية بمنافعها الذاتية الضيقة وتغليب هذه المنافع على هدف الخدمة العامة هو السر الخطير الكامن وراء حالة التقهقر السياسي التي تشهدها البلاد وتلقي بظلال كثيفة على مجمل النظام السياسي.

 ففي كل صراع جديد يظهر على خلفية حدث من الإحداث السياسية العراقية وينتصر فيه الخاص على العام تُسدد ضربة موجعة للنظام السياسي العراقي المكروه عربيا وإقليميا. وفي كل احتيال على القانون بدواع سياسية ضيقة الأفق إعاقة لمسيرة إعادة البناء في هذا البلد. وفي كل اختيار عنصر خاطئ لتولي مسؤولية من المسؤوليات الرسمية الكبرى مساهمة مجانية أو مدفوعة الثمن تستهدف إعاقة النمو السياسي الطبيعي للنظام العراقي نحو أطوار الفتوة والشباب، وتنفخ الروح في الأنظمة السياسية المجاورة التي لما يغادر أكثرها بعد مرحلة الطور السياسي الجنيني الآيل للسقوط.

 
 

 

الصفحة الرئيسية | نشاطات المركز | مقالات | عن المركز | بحوث مستقبلية | إصدارات المركز | الهيئة الإستشارية | منار المستقبل | مجلة المستقبل | إتصل بنا

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

 جميع الحقوق محفوظة لمركز المستقبل للدراسات والبحوث / 1426هـ / 2005م

info@mcsr.net