الإعلام الرسمي وفوضى التصريحات

 

 

لطيف القصاب

 

من المعتاد في جميع الأنظمة السياسية أن يتم بين الحين والأخر اتخاذ إجراءات لتعيين أو عزل كبار الموظفين السياسيين والأمنيين على ضوء ظروف طبيعية أو استثنائية، وغالبا ما يتم الإعلان عن مثل هذه الإجراءات من خلال مؤتمرات صحفية يعتلي المنصة فيها متحدثون إعلاميون ينطقون عن المصادر الرسمية ذات العلاقة حصرا، وبهذا الشكل المتحضر يتم قطع الطريق أمام مخاطر التكهنات والإشاعات المغرضة والتي من شانها إصابة النسيج الاجتماعي بكدمات ضارة ومضرة ولا يردعها شيء عن استخدام شتى صور التشهير والتسقيط بحق ضحاياها.

 إلا أن الأمر في العراق ما يزال منذ أن تغير النظام السابق بعيدا عن الالتزام بهذا التقليد الحضاري حتى الآن، ومن يتابع مجمل حركة تدفق المعلومات الحساسة بإمكانه رصد خطوط متعددة للكشف عن المعلومات تنساب في غالبيتها من خلال تسريبات صحفية لبعض وسائل الإعلام المتفاوتة في درجات المصداقية، وليس عبر القنوات الطبيعية المخولة رسميا بمهام الكشف والإعلان عن قرارات مؤسسات الدولة، وتوضح المتابعة الدقيقة للشأن الإعلامي العراقي أيضا طريقا أخر للإشهار عن المعلومات الهامة يمر هذه المرة عبر مصادر في الدولة لكنها - وهذا هو المحذور- مصادر ليست ذات علاقة.

إن من البديهي أن تعمد وسائل الإعلام على اختلاف أنواعها وأشكالها إلى الإسراع في الإعلان عن خبر عزل أو تعيين موظف حكومي مثير للجدل استنادا إلى مصادر محجوبة أو طفيلية تدفعها في ذلك الرغبة للحصول على سبق صحفي في ظل فضاء إعلامي شديد التنافس، وغالبا ما تنشر الصحافة التقليدية والالكترونية أخبارا من هذا النوع بتقييد نسبتها إلى مصدر مسؤول أو مصدر مطلع في الدولة، وفي الكثير من هذه الأخبار لا تتطرق وسيلة الإعلام إلى هوية ذلك المسؤول أو المطلع المفترض، وتستطيع الصحافة عادة تعليل هذا الإبهام بذرائع الحفاظ على سرية المصادر أو طلب المصدر بعدم الكشف عن هويته.

ورغم أن هذه الطريقة قد تكلف الوسيلة الإعلامية غاليا في حال ما إذا اُكتشف عدم صحة تلك الأخبار لاسيما المنقولة عن مصادر محجوبة وكون الوسيلة الناقلة للخبر قد وقعت فريسة لفخاخ بعض القوى التي تتعمد توريط وسائل الإعلام ببث أو نشر أخبار لدواعي سياسية أو مخابراتية أو من اجل النيل من مصداقية جهة إعلامية تناوئ توجهات تلك القوى، إلا أن الصحافة وبشكل عام لا تجد مفرا من المجازفة أحيانا في سلوك هذا السبيل الخطر لاسيما مع تقاعس أو تنصل الجهات الرسمية ذات العلاقة عن مسؤولياتها في إعلام الرأي العام بأحداث مهمة بالإضافة إلى إمكانية احتواء الأخبار المنقولة عن بعض المصادر على قدر كبير من عناصر الإثارة الأمر الذي لا تستطيع مقاومة إغراءه أكثر وسائل الإعلام دقة ورصانة. ويزداد هوس وسائل الإعلام في نقل المعلومات المثيرة إذا ما أتاحت لها الظروف وجود مصدر في الدولة مستعد للبوح بما يمتلك من معلومات بصرف النظر عن كونه مخولا بالنشر والتصريح أم لا، فعلى الأقل تستطيع الوسيلة الناقلة للمعلومات في هذه الحالة تفادي مشكلة الوقوع في محاذير قانونية على خلفية نشر معلومات حساسة من غير نسبتها إلى مصدر بعينه.

إن عملية تدفق معلومات مهمة بواسطة مسؤول ليس من اختصاصاته الدقيقة التصريح بها لوسائل الإعلام في الوقت الذي تؤشر فيه إلى حالة ايجابية من حيث القدرة على اختراق حجب التعتيم والتكميم إلا أن هذا الأمر لا يمكن إدراجه من جهة ثانية إلا في خانة فوضى التصريحات التي تسيء إلى الكيان العام للدولة ويؤدي بها إلى فقدان الشيء الكثير من هيبتها على المستوين الداخلي والخارجي.

ولعلاج هذا الخلل المبين لابد من تفعيل مكاتب الإعلام والعلاقات العامة في دوائر الدولة جميعا وتزويدها بوقائع الأحداث أولا بأول للحيلولة دون استشراء ظواهر التسريبات والبيانات الكاذبة والخادعة، كما لابد لهذه الدوائر التعامل مع المؤسسات الإعلامية المختلفة بما يكفل للأخيرة عدم اللجوء إلى مصادر مجهولة أو مصادر غير مخولة بالتصريح لجهة عدم المسؤولية أو الاختصاص.

 وأول ما ينبغي البدء به من قبل المسؤولين (ذوي العلاقة ) في هذه المرحلة هو إصلاح آليات العمل في شبكة الإعلام العراقية بما يجعل منها وسائل إعلام مملوكة للدولة حقيقة وتجنب اختزال عنوان الدولة الكبير بالسلطة التنفيذية وقراءة الرأي العام بتجرد بعيدا عن محاولات تغيير اتجاهاته من خلال البرامج السمعبصرية الموجهة أو بواسطة إجراء استبيانات واستطلاعات رأي لا تلتزم بمعايير الجودة والكفاءة.

 وكذلك إعادة النظر جديا بعمل المركز الوطني للإعلام فقد أثبتت الحقائق على الأرض بأن هذه المؤسسة الرسمية ابعد ما تكون عن الغايات التي شُكلت من اجلها والتي من المفترض أن يكون من بينها إعلام الرأي العام بقرارات السلطة التنفيذية على صعيد الوزارات أو الهيئات المرتبطة بمجلس الوزراء، وخير الشواهد على تخلف هذه المؤسسة إعلاميا ما أشيع في الفترة الماضية من أخبار عزل كل من وزير الزراعة ومستشار الأمن الوطني ورئيس جهاز المخابرات، فلم يكن لهذه المؤسسة الإعلامية أسوة بشبكة الإعلام من دور يُذكر من حيث المبادرة بالإعلان أول مرة عن تلك الأخبار في حال صدورها فعلا أو دحضها إذا كانت مجرد إشاعات كاذبة تستهدف النيل من سمعة أو كرامة بعض المواطنين العراقيين، وبقي الأمر يراوح إلى حين من الزمان في دائرة مغلقة من المصادر غير الموثوق بها والمصادر التي لا يدخل ضمن اختصاصاتها إطلاق التصريحات في شؤون كهذه.

 
 

 

الصفحة الرئيسية | نشاطات المركز | مقالات | عن المركز | بحوث مستقبلية | إصدارات المركز | الهيئة الإستشارية | منار المستقبل | مجلة المستقبل | إتصل بنا

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

 جميع الحقوق محفوظة لمركز المستقبل للدراسات والبحوث / 1426هـ / 2005م

info@mcsr.net