جمال الاداء في حسن التوقف 

 

 

لطيف القصاب

 

تعد ظاهرة الوقف إحدى الظواهر المميزة للغة العربية ، فقد ورد الحديث عن الوقف لدى القدماء في ثنايا كتب علوم القرآن بما تشتمل عليه تلك الأخيرة من بحوث في القراءات والتفسير والتجويد وما إلى ذلك ، وقد كان القراء الأوائل في الكوفة والبصرة يتجنبون القطع على الكلام الذي يتصل بعضه ببعض ويتعلق آخره بأوله ، ومن ثم اشترط كثير من أئمة السلف  على المجيز ألا يجيز أحدا إلا بعد معرفته الوقف والابتداء [1]. وهناك جملة من الأغراض الدلالية في الوقف منها لفت نظر المتلقي وتشويقه وتحريضه ونحو ذلك . أما أهمية الوقف فإنها تنبع من أهمية علم الأداء بالنسبة لعموم المتحدثين والسامعين ، ومن المسلم به عند أصحاب صنعة الكلام والخطباء فأن الوقف يشكل جزءا حيويا من فن الأداء . فالوقف ينفع المرسل من جهتين : أولهما ليتنفس ، إذ لا يستطيع ذلك أثناء القراءة ، والأخرى لينشئ بهذا التنفس زفيرا ينفقه في متابعة القراءة ، على أن الوقف مفيد للمتلقي أيضا من حيث يحتاج هذا الأخير إلى زمن يدير فيه الكلمات التي تُلقى عليه في ذهنه ، ويؤلف بين شتى معاني المقال والمقام حتى يصل إلى مراد المتكلم .[2] والوقف والقطع والوقوف والأوقاف كلها تشير إلى معنى واحد في مقابل الابتداء والوصل . ومما يستضاء به في هذا المورد قول الإمام علي عليه السلام :- الترتيل تجويد الحروف ومعرفة الوقوف [3] . وفي جمال الأداء خاض كثير من المحدثين ومنهم على سبيل المثال الدكتور تمام حسان إذ يقول :- إن الإعراب والتنغيم وغيرهما من القرائن اللفظية جانب من قرائن كثيرة يستعين بها السامع على فهم المعنى ، وللتنغيم نغمتان الأولى هابطة عندما يكون الوقف على تمام المعنى والأخرى مسطحة لا صاعدة ولا هابطة وذلك عندما يكون الوقف قبل تمام المعنى كقوله تعالى : }فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر {[4] ، فالوقف على البصر والقمر أولا والقمر ثانيا وقف على معنى لم يتم ، فتظل نغمة الكلام مسطحة دون صعود أو هبوط . أما الوقف عند (المفر) ، فالنغمة فيه هابطة لأنه وقف عند تمام معنى الاستفهام [5] . وإجمالا فان إن إدراج الوقف في مكان معين من شانه خلق علاقات تركيبية مختلفة يتسبب من خلالها بإحداث الكثير من الوجوه النحوية. بالإضافة إلى تنظيم اللغة من حيث سلامة الإيقاع وحسن الأداء .

 

الوقف لغة :- الواو والقاف والفاء أصل واحد يدل على تمكث والوقف مصدر وقف متعديا فإذا كان لازما فمصدره وقوف وقف فلانا عن الشيء : جعله يمسك عنه ووقف فلانا على ذنبه : أطلعه عليه ووقف الدار ونحوها : سبلها ، أي : حبسها في سبيل الله ،والوقوف خلاف الجلوس ، وقَف بالمكان وقفا ووقوفا ، فهو واقف، والجمع وُقْف ووُقوف، والوقف مصدر قولك وقَفْتُ الدابةَ ووقَفْت الكلمة وقفا ، فإذا كان لازما  قلت وقفت وقوفا .[6]

 

الوقف اصطلاحا :- لدى النحويين : هو البناء على السكون ، وأما في اصطلاح القراء : " فهو قطع الصوت على آخر الكلمة زمنا يتنفس فيه عادة ، بنية استئناف القراءة وأقسامه عندهم التام والكافي والحسن والقبيح" .  [7] وليس من شان هذا البحيث المقتضب الخوض في مسائل الوقف القرآني الا عند الضرورة القصوى وبقدر ما يكون فيه النص القرآني نصا نثريا رفيعا وبغض النظر عن اصول الترتيل والتلاوة  . اما انواع الوقف فهي كالاتي :-

 

أولا :- الوقف في الروم والإشمام : الروم :- وهو أن تروم الحركة ولا تتمها بل تختلسها اختلاسا تنبيها على حركة الأصل وسمي روما لأنك تروم الحركة وتريدها ، حين لم تسقطها ، ويدرك الروم الأعمى الصحيح السمع إذا استمع لان في آخر الكلمة صويتا خفيفا . أما الإشمام :- فهو ضم الشفتين بُعيد الإسكان إشارة إلى الضم مع بعض انفراج بينهما ليخرج منه النفس ، ولا يُدرك لغير البصير. وبحسب الدكتور محمد خليل مراد الحربي فإن وجهي الوقف من الروم والإشمام لم يعودا سائدين في لغة اليوم ، بل هما مما يدخل في عداد التراث اللغوي ، والقرآني منه على وجه الخصوص .[8]  

 

ثانيا :- الوقف بالتضعيف : وشرطه ان لايكون الحرف الاخير همزة ، كخطأ ، ولا معتلا ، كفتى ، وان يلي حركة ، كالجمل ، فنقول في الوقف عليه الجمل – بتشديد اللام – فان كان ما قبل الاخر ساكنا ، امتنع التضعيف ، كالحمل .

ثالثا:- الوقف بالنقل : وهو عبارة عن تسكين الحرف الاخير ، ونقل حركته الى الحرف الذي قبله ، وشرطه : ان يكون ما قبل الاخر ساكنا ، قابلا للحركة ، نحو : هذا الضرب ، ورايت الضرب ، ومررت بالضرب ، فان كان ما قبل الاخر متحركا لم يوقف عليه بالنقل ، كجعفر ، وكذا ان كان ساكنا لايقبل الحركة ، كالالف ، نحو : باب ، وانسان ، ومتى ادى النقل الى ان تصير الكلمة على بناء غير موجود في كلام العرب امتنع ذلك ، وعلى هذا يمتنع قولك : هذا العلُم في الوقف على العلم .[9]

 

رابعا:- الوقف في ما عدا الروم والإشمام والتضعيف والنقل  :- وله في العربية قواعد نعرضها على النحو الأتي :-[10]

أ- الوقف على غير المنون : إذا كانت الكلمة غير منونة كأن تكون اسماً معرفا بالألف واللام ، أو اسما ممنوعا من الصرف ، أو فعلا ، فانه يوقف على الجميع بالتسكين مثل : جاء الرجل ، رأيت الرجل ، مررت بالرجل ، جاءت زينب ، الطالب يكتب، لن يكتب الطالب كتب  ..الخ.

ب- الوقف على الاسم المنون المنصوب: وهذا  يبدل تنوينه ألفا ، مثل : رأيت زيدا . قابلت رجلا . أما إذا كان الاسم مرفوعا أو مجرورا فيصار إلى حذف التنوين ويوقف على آخره بالتسكين نحو : جاء زيد ، مررت بزيد ، جاء رجل ، مررت برجل . قال ابن جني : تنوين النصب هو :- " كل اسم منصرف وقفت عليه في النصب أبدلت من تنوينه ألفا إلا أن يكون حرف إعراب ذلك الاسم ( تاء التأنيث ) التي تبدل في الوقف هاء ، وذلك في قولك : أكلت تمره ، وأخذت جوزه . ولم تقل :_أكلت تمرتا ، ولا أخذت جوزتا ، لأنهم أرادوا الفرق بين التاء الأصلية في نحو : دخلت بيتا ... والتاء الملحقة نحو رأيت عفريتا ... وبين تاء التأنيث في نحو تمرة وغرفة " [11].   ومما يجدر ذكره في هذا المقام أن العرب لم تقف على التنوين وذلك لان التنوين إعراب .ولان الإعراب زائد .ولان العرب تحذف كلامها ولا تقف عليه .وحتى لا يشتبه التنوين عند الوقف عليه بالنون الأصلية ، كنون (حسن )[12]

 ت-   الوقف على الاسم المقصور : يوقف على الاسم المقصور بالألف دائما سواء أكان منونا أم غير منون ، مثل جاء فتى ، مررت بالفتى .

ث-  الوقف على الاسم المنقوص : إن كان منصوبا أثبتت الياء وأبدل التنوين ألفا ، مثل : رأيت قاضيا . وان كان مرفوعا أو مجرورا حذفت الياء ، نحو : جاء قاض ، مررت بقاض . فان كان المنقوص معرفا بالألف واللام ، أي غير منون ثبتت ياؤه في كل الأحوال ، مثل جاء القاضي ، مررت بالقاضي ، رأيت القاضي.

ج- الوقف على هاء الضمير : إن كان الضمير عائدا على مفرد مذكر يوقف على الهاء بالسكون . نحو : رايته ، مررت به ، الكتاب له . وان كان الضمير عائدا على مفرد مؤنث يوقف على الضمير بالألف ، مثل رايتها ، مررت بها ، الكتاب لها.

ح- الوقف على تاء التأنيث : تاء التأنيث ، أما أن تكون في آخر اسم أو فعل ، وأحكام الوقف عليها تسير على النحو الأتي : -إذا كانت تاء التأنيث في اسم فإننا نقف عليها مع إبدالها هاءً،مثل : جاءت طالبة ، رأيت طالبة ، مررت بطالبة . ويجوز الوقف عليها بالتاء على أن يكون قبلها حركة أو ساكن معتل ، مثل : شجرت ، صلات ، حيات ،وإذا كانت التاء في آخر اسم وقبلها حرف صحيح ساكن وقفنا عليها بالتاء ، مثل : أخت ، بنت ، جمع المؤنث السالم نقف عليه بالتاء ، مثل : جاءت الطالبات .

خ- الوقف على هاء السكت ، وأحكامه على النحو الأتي :- في الفعل المعتل المحذوف اللام ، أي في حالتي الجزم والبناء ، مثل : لم يسع ، لم يدع ، لم يرم ، يجوز أن نضيف هاء السكت في ذلك كله ، فنقول : لم يسعه ، لم يدعه ، لم يرمه ، فإذا بقي الفعل على حرف واحد وجبت هذه الهاء ، مثل : ق.....قه  ، ر.....ره .ما الاستفهامية المجرورة ، مثل : بم ، لم ، عمّ . فعند الوقف تلحقها هاء السكت فنقول : بمه ، لمه ، عمّه .ياء المتكلم ، وهو ، وهي مثل:  كتابيه ، هوه ، هيه . وبوجه عام فاذا دخل على ما الاستفهامية حرف جر ، وجب حذف الفها نحو عمّ تسال ؟ و بم جئت ؟ ، واذا وقف عليها بعد دخول الجار ، فاما ان يكون الجار لها حرفا او اسما ، فان كان حرفا جاز الحاق هاء السكت نحو عمه و فيمه ، وان كان اسما ، وجب الحاقها نحو : اقتضاء مه , ومجيء مه  . [13]

                               

من محاذير الوقف :-

إن الوقف قد يفضي إلى حدوث اللبس في المعنى كما في قوله تعالى: }وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا { . فمن المفسرين من وقف على (إلا الله) ،  ومنهم من وقف على  (والراسخون في العلم)  [14] . ومعلوم اثر النزاع العقائدي الذي نشب نتيجة لاختلاف الوقف في  هذين الموضعين ، فيمن ذهب إلى عطف (والراسخون في العلم) على لفظ الجلالة ، وبين من عد (والراسخون في العلم) مبتدأ خبره يقولون، والواو للاستئناف. وعلى الرأي الأول فقهاء أهل البيت عليهم السلام وبعض فقهاء الجمهور وعلى الرأي الثاني تبانى الآخرون  . وختاما فان الإغضاء عن الوقف يؤدي إلى اللبس في الإعراب فيما هو دون كلام الله عز وجل ، من حديث نبوي شريف وشعر ونثر ، ومما يندرج في المعنى الأخير ، قول القائل :-  ما  يدوم الباطل ما يدوم الحق حق .  فعدم وقوف المتكلم على (ما  يدوم ) الثانية يقتضي نصب كلمة (حق) على انها خبر مادام ،  بينما الوقف عندها يستلزم رفعها بقصد الاستئناف .


 


[1] - ينظر الوقف في العربية للنيرباني  / 40

[2] - ينظر المصدر السابق / 45 – 46

 

[3] - الإتقان في علوم القران /  1/ 258

[4] - سورة    القيامة    /    الآية 7-10

[5] ينظر اللغة العربية معناها ومبناها / 205 - 207

 /  205 -230

[6] - لسان العرب   /  11     /    98    ، وينظر المعجم الوسيط / 1110 

[7] - الوقف في العربية للنيرباني  /  38 – 39 ، وينظر الوقف في العربية للحربي / 10

[8] - ينظر  الوقف في العربية للحربي / 176

[9] - ينظر شرح ابن عقيل  / 146 – 148 .

[10] - ينظر التطبيق الصرفي / 190 -194

[11] - سر صناعة الإعراب/  2 / 575  

[12] - الوقف في العربية للحربي / 52

[13] - شرح ابن عقيل  / 153

[14] - سورة    ال عمران  /    الآية 7

 

 

 
 

 

الصفحة الرئيسية | نشاطات المركز | مقالات | عن المركز | بحوث مستقبلية | إصدارات المركز | الهيئة الإستشارية | منار المستقبل | مجلة المستقبل | إتصل بنا

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

 جميع الحقوق محفوظة لمركز المستقبل للدراسات والبحوث / 1426هـ / 2005م

info@mcsr.net