خارطة طريق إلى سياسة اقتصاد واضحة

 

 

علي احمد فارس

 

هناك مقولة شائعة لدى علماء الاقتصاد وهي انك أذا جمعت أربعة منهم ليتجادلوا حول قضية اقتصادية لخرجوا بخمسة آراء مختلفة. ونرى اليوم أن هذه المقولة أصبحت مصداقا لما يحدث في الواقع الاقتصادي العراقي وأصبح اقتصاد البلد رهينة لحملة الأفكار الاقتصادية الحديثة والتي تناسب على الأغلب بعض النظم السياسية والاجتماعية الغربية أو الشرقية.

 وكما تعودنا من أصحاب الرأي الواحد الأحد والذي لا يقبل الخلاف أو الجدال نجد قادة الاقتصاد اليوم يتحاورون حوار الطرشان حول السياسات الاقتصادية العراقية إن كانت سياسات مالية أو نقدية أو استثمارية أو تنموية. ولو كان هذا الحوار خلف الكواليس كما كان يحدث في العهود البائدة لهان الأمر ولكن الفضائيات العديدة سهلت عملية نشر الغسيل الفكري والاقتصادي والذي تحملته عقولنا البريئة سياسيا والفقيرة اقتصاديا.

 وأي فرد من هذا الشعب المسكين اقتصاديا بدأ اليوم يدرك بوضوح أن جميع السياسات النقدية والمالية وظيفتها الأساسية هي دعم (خدمة) التنمية الاقتصادية لأي بلد. وأصبح هذا المواطن يدرك بأن السياسات النقدية التي يمارسها البنك المركزي يجب لا توضع لخدمة العاملين في هذه المؤسسة أو لتجربة أفكار قائدها الضرورة وإنما هذه السياسات يجب أن تجير لدعم القطاعات الاقتصادية والبرامج الاستثمارية والتنموية لبلد أكثر ما يعانيه اليوم فقدان البنى التحتية للاستثمار والافتقار للمشاريع التنموية الكبيرة وما ينتج عن ذلك من ارتفاع نسب البطالة وازدياد طوابير العاطلين.

ولا يخفى أن من أهم وظائف البنك المركزي هي إصدار العملة والسيطرة على مستويات أسعار الفائدة والرقابة على المصارف ومحاولة الحد من نسب التضخم وهو أيضا مستشار الحكومة والملجأ الأخير للإقراض ويضيف البعض إليها معالجة مشاكل التنمية الاقتصادية, وهو يستخدم مجموعة من السياسات لانجاز هذه الوظائف أهمها التحكم بمستوى الاحتياط القانوني والتحكم بأسعار الفائدة المخصومة على المصارف والدخول إلى السوق كبائع أو مشتري للأوراق المالية المتنوعة أو العملات الأجنبية وهذه السياسات تساعد على استقرار مستوى عرض النقود في الأسواق وبالتالي تحافظ على مستويات معقولة من التضخم وتعمل على حماية أسعار صرف العملة المحلية من التقلبات الكبيرة والمتكررة.

 ومن المؤكد أن البنك المركزي العراقي ينفذ أغلب هذه الوظائف والسياسات بشكل صارم وشديد ولكن من غير الالتفات إلى العناصر والمؤشرات الاقتصادية الأخرى داخل البلد. والمشكلة هنا هي مشكلة الأولوية أو أسبقيات الأنشطة الاقتصادية المناسبة لأوضاع بلد مثل العراق يحتاج اليوم إلى برامج استثمارية هائلة وخطط تنموية قصيرة وطويلة الآجل (مستدامة) ومن المعروف إن زيادة الاستثمارات في البلد تؤدي إلى الانتعاش الاقتصادي وهذا الانتعاش لابد إن يصاحبه زيادة في نسب التضخم وتغيير في مستوى أسعار صرف العملة المحلية وهذه النتائج لا ينجو منها إي بلد مهما امتلك من عقول اقتصادية حكيمة ومهما استخدم من مداخل وأساليب اقتصادية متوازنة ولكن خبراء الاقتصاد يمارسون بعض السياسات المساعدة وذلك للحفاظ على أدنى حد ممكن من التضخم وأقل مستوى مطلوب من التذبذب في سعر صرف العملة. أي أن هذه المخرجات السيئة لابد وأن ترافق عملية التنمية الاستثمارية.

فهل أصبح اليوم منطقيا أن يمارس البنك المركزي سياسات لا تتناسب مع ظروف التنمية الاقتصادية التي يحتاجها البلد, ليس لغاية سوى ممارسة وظائفه الجامدة والتي تنفذ بشكل متشدد وصارم يعتمد على قوانين لا تمتاز بالمرونة المطلوبة لمثل الأوضاع الشاذة التي يعاني منها اقتصاد العراق. فالجدال المحتدم اليوم بين علماء الاقتصاد لدينا ليس حول المبادئ الاقتصادية وأساليب تطبيقها ولكن حول الأولويات في ممارسة الأنشطة وحول أيهما الأكثر منفعة، هل هي الممارسة الناجحة لنشاطات مؤسسة حكومية مثل البنك المركزي أم تطوير البنية الاقتصادية العراقية بشكل عام.

 فإدارة البنك المركزي وهم الخبراء الاقتصاديون كما تشير شهاداتهم العلمية مؤيدة بتواريخهم العريقة يتصرفون وكأن البنك المركزي مستقل عن كل ما يحيط به من ظروف اقتصادية وسياسية واجتماعية وبالتالي يمارس نشاطه من غير الرجوع أو التشاور مع إي محور اقتصادي آخر في البلد وبالتالي هذه الانعزالية التي يمارسها البنك المركزي تؤدي إلى تشتت الأفكار وعرقلة الخطط التنموية الشاملة التي تسعى لها ادارة الدولة لإرجاع العراق إلى سكة التنمية الاقتصادية ودفع عجلة الاستثمار نحو الإمام.

ولعل هذه السياسة التي يستخدمها المركزي العراقي هي التي تحقق أهداف البنك الرئيسية (حسب وجهة نظر منظري هذه السياسة) وهي التي تثبت استقلاليته ولكن الأسئلة التي تبقى تتردد في الأذهان هي حول مدى استقلالية البنك المركزي وهل الأهم خدمة الأهداف العامة له أم الأهم خدمة المسيرة الوطنية الشاملة ؟ وهل توضع أهداف كل مؤسسة اقتصادية أو مالية بمعزل عن المؤسسات الأخرى وبمعزل عن الأهداف الستراتيجية الشاملة لإدارة الدولة؟ ومن المسؤول عن تطابق أهداف المؤسسات مع الأهداف العامة؟ ولمن الأولية إذا تعارضت أهداف مؤسسة اقتصادية ما مع الأهداف الاقتصادية للدولة؟ ولمن سلطة القرار النهائي أذا ظهرت خمسة آراء متباينة لأربع اقتصاديين على مستوى رفيع من السلطة بل هم الأقرب لمتخذي القرار؟ وما هو دور الرقابة البرلمانية على الصراع الدائر في أروقة اقتصاد العراق ؟.

بالتأكيد أن كل من هذه الأسئلة تحتاج إلى جواب يقتنع به المواطن من شانه ازالة حيرته وهو يصغي إلى آراء كبار الاقتصاديين وليس الى تعميق هذه الحيرة لديه، ومن نافلة القول فانه لا يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة قبل مناقشة المسألة الأهم وهي درجة استقلالية البنك المركزي.

إن استقلالية المصارف المركزية مرت بمراحل عدة منذ أول ظهور لها في أواسط القرن السابع عشر في أوربا ولكن منذ بداية القرن العشرين قامت العديد من دول العالم بإنشاء البنوك المركزية والتي كانت تجارية, وفي الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى كانت الرغبة السائدة هي في منح ودعم الاستقلالية للمصارف المركزية في اتخاذ قراراتها بمعزل عن القرارات السياسية التي تتخذها الحكومات بسبب الأنظمة الاقتصادية الحرة السائدة في ذلك الوقت, ولكن بعد فترة الكساد الكبير بين الأعوام 1929-1933 أخذت العلاقة بين الحكومات والمصارف المركزية شكلا آخر, فبعد انهيار عدد كبير من المصارف وإفلاسها والهبوط الحاد في أسعار الأوراق المالية وأسعار صرف العملات بدأت الحكومات باتخاذ إجراءات صارمة تمثلت بتحويل ملكية بعض هذه المصارف إلى الدولة وحتى المصارف التي بقيت ضمن القطاع الخاص مارست الحكومات عليها أنواعا من التأثيرات المباشرة وغير المباشرة مثل التدخل في تعيين وإقالة محافظي المصارف المركزية, واستمر هذا التدخل إثناء الحرب العالمية الثانية للمساعدة على تمويل المعارك, ومنذ ذلك الوقت استمر تداخل العلاقات بين سياسات الحكومات ونشاطات المصارف المركزية اعتمادا على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة.

أي ان مدى استقلالية هذه المصارف يكون مرتبطا بالظروف التي تمر بها كل دولة، إذ تقل الاستقلالية في أوقات الازمات المالية الكبيرة وأوقات الحروب الداخلية او الخارجية. ولايخفى على أحد أن الظروف الحالية للعراق تعاني من كل أنواع الازمات السياسية والمالية والاقتصادية والاجتماعية لذلك يجب أن يراعي قادة البنك المركزي العراقي هذه الظروف الاستثنائية عند ممارسة نشاطاتهم وصناعة قراراتهم.

ولايمكن الادعاء أن الاستقلالية غير نافعة أو انها مضرة باقتصاد البلد, ولكن هذه الاستقلالية يجب أن لا تضع العراقيل في مسيرة التنمية الاقتصادية وأن يعمل البنك المركزي في هذه الظروف القاهرة ضمن خطة نقدية لاتتناقض مع السياسات المالية وتصب في مجرى التنمية الاقتصادية المستدامة ولو لفترة محددة حتى تظهر في الافق بوادر للانفراج السياسي والاقتصادي.

أما باقي الاسئلة فهي متداخلة في كثير من جوانبها إي إن الإجابة يجب إن تكون ضمن إستراتيجية متكاملة يضعها ويشترك بتنفيذها كل قيادات المفاصل الاقتصادية على ان يتركوا جانبا المصالح المؤسساتية الضيقة ويترفعوا عن الجدال المؤدي للصراع الجدلي الذي لايهدف الا الى الغلبة بغض النظر عن المصالح العامة التي تراعي الاهداف طويلة الامد وغير المرتبطة بمرحلة سياسية معينة او بحزب او فكرة مؤقتة.

 ولعلنا نستطيع ايراد سائر ما تقدم من رؤى وافكار في شكل الخلاصة التالية:

1- اشتراك جميع قادة المفاصل الاقتصادية في رسم الخطة العامة وتبادل الأفكار والآراء بصورة متحضرة تضع المشاكل الشخصية خارج الاطار وتحيط بمشكلة البلد الاقتصادية.

2- الاستعانة بالخبراء الاقتصاديين في الداخل أو حتى الخارج إلى حد ما للوصول إلى أفضل الحلول المقدمة للمشاكل المتعددة والمتغيرة في الوضع الراهن والاستعانة بخبرات كل ممارسي السلطة الاقتصادية السابقين والحاليين.

3- توزيع المسؤوليات والأدوار وتوضيح الصلاحيات ورسم الحدود لكل مؤسسة اقتصادية أو مالية.

4- تحديد الأولويات في انجاز الأهداف وحسب المرحلة الاقتصادية التي يمر بها البلد ومنح المرونة اللازمة في تنفيذ هذه الأهداف للتكيف مع كل التغيرات الاقتصادية المتوالية.

5- وضع سياسات نقدية ومالية قصيرة ومتوسطة الأجل للحد من الزيادة المفرطة في نسب التضخم والتي ترافق الانفتاح الاقتصادي والتنمية الاستثمارية على ان لا تكون هذه السياسات هدفا بحد ذاتها.

6- نبذ كل المصالح الفردية او المؤسساتية او الحزبية والتمسك بالمصلحة العامة للوطن وجعل الاهداف الخاصة بالمؤسسات المالية والاقتصادية والتخطيطية في خدمة تحقيق السياسة الاقتصادية الشاملة.

7- محاصرة جميع مفاصل الفساد الاداري والمالي وتنفيذ الخطط الرقابية الصارمة ومعاقبة كل المفسدين وتحويلهم للقضاء العادل.

8- عدم التحكم بالقرار المالي من قبل أي شخص أو مؤسسة او وزارة منفردة ورسم وتوزيع الموازنات المالية بطريقة تساعد على تنشيط القطاعات الانتاجية والخدمية الحكومية والخاصة والتي تقلل من نسب البطالة وتزيد من الناتج والدخل القومي.

9- تشكيل لجنة اقتصادية عليا مكونة من خبراء اقتصاديين لهم سلطة الرقابة والاشراف على الخطط الاقتصادية المستقبلية ولهم سلطة وصلاحية تصحيح الانحرافات واتخاذ القرارات الملائمة لذلك ولاضير من أن تكون هذه اللجنة برلمانية على ان لاتعتمد على نظام المحاصصة سيء الصيت.

ومع صدق النوايا وتكاتف جهود الجميع يمكن ان تدار الازمة بطريقة آمنة من اجل ان نصل الى بر الامان ونرى الضوء في نهاية النفق المظلم الذي نعيش فيه.

 

 

 

  

 

 
 

 

الصفحة الرئيسية | نشاطات المركز | مقالات | عن المركز | بحوث مستقبلية | إصدارات المركز | الهيئة الإستشارية | منار المستقبل | مجلة المستقبل | إتصل بنا

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

 جميع الحقوق محفوظة لمركز المستقبل للدراسات والبحوث / 1426هـ / 2005م

info@mcsr.net