الاحزاب العراقية والولع في رسم المشهد القاتم

 

محمد الصواف

 

لم تفتأ الأحداث الحتمية التي مرت بالعراق ولا تزال تعصف به أن تزيح واقع وتحل مكانه أخر، دون اكتراث أو إمعان في مدى ما كان متجذرا في قناعات من امن بها، مصطحبة في أطروحاتها أجندة وتناقضات  تلغي ما سبقها جملة وتفصيلا، متجددة كل مرة تسمح لها الظروف باتخاذ وضع النفور والصدام كلغة في تصديها لما تواجهه من ثوابت او متغيرات، دون الأخذ بنظر الاعتبار احتمالات وجود بعض أوجه الايجابية في كينونة ما سبق.

فبالرغم من حداثة تجربة الدولة العراقية التي أسسها البريطانيون عام 1921 ، إلا إن العراق كان من أكثر الدول تأثرا بمحيطة الإقليمي والدولي، أو بالأحرى أكثر من عانى وتأثر بموازين القوى خلال الحقبة الماضية، فلم تمر به صراعات القرن العشرين أو الحربين العالمتين الأولى والثانية بسلام أسوة بأغلب دول المنطقة، حيث كان وقعها مباشرا ومؤثرا في صميم الدولة العراقية ومجتمعها المدني، ليخلف هذا التأثير سلسلة من الانقلابات الناجحة والفاشلة، وحروب داخلية وخارجية، قادت العراق إلى مهاوي ومنزلقات دهاليز التيه والضياع في خضم الصراع الدولي، ملحقة به اشد أنواع الضرر والمخاطر، متوجة نتائجها بانهيار الدولة العراقية بصورة كاملة اثر اجتياحها من قبل أقوى جيوش دول العالم واكثرها تطورا، الولايات المتحدة الأمريكية.

بين تلك المعطيات كان افراد المجتمع العراقي عامة يجهدون في بناء حالة من الذاتية المعتبرة تستطيع النأي بهم عما هو غير أصيل ، وبناء الهوية العراقية المستقلة في كنف دولة قادرة على المضي في طريقها في مصاف دول العالمين الأول والثالث.

فقد برزت تلك التطلعات في بدايات العهد الملكي وتحديدا في أواسط عقوده الثلاث المنصرمة،  تمثلت بشكلين من الحراك اولهما على هيئة الحراك السياسي الديمقراطي، الذي استقطب اغلب القيادات الحزبية المتقدمة في ذلك العهد، الذي كان يتعرض لاحباط جهوده باستمرار على يد السلطات الحاكمة آنذاك، كونه يتعارض مع توجهات السياسة البريطانية، فيما كان للحراك العسكري الدور المكمل الثاني الذي عول عليه بشدة لتحقيق الأرضية المناسبة لتلك التطلعات وفق رؤية البدء في التغيير من رأس الهرم إلى القاعدة.

ولكن أفضى تدخل الجيش في الأمور السياسية وخروجه عن دائرته المهنية إلى نتائج سلبية على صعيدي السلطة والمجتمع المدني.

فبعد نجاح العسكر في انقلاب الرابع عشر من تموز 1958 انحدر المخاض السياسي من نشاط مدني ذي  معايير بنيوية تأمل النهوض بدولة معتبرة وتأهيل مجتمع مقتدر تسوده ثقافة بناء الذات ومبادئ الحقوق الديمقراطية، إلى مجرد صراع بين قيادات العسكر والأحزاب الانتهازية لأجل السلطة والمصالح الشخصية تحت شعارات رنانة خالية الوفاض بعيدة عن هموم المجتمع وقضاياه الوطنية،  لتهمش إرادة الشعب العراقي وتطلعاته مجددا.

 لتبدأ مرحلة جديدة تمثلت بعسكرة المجتمع، كان للأحزاب أيضا مساهمته الفاعلة في ترسيخ العسكرة بين المدنيين من خلال ممارساتها السلبية في دعم الأنظمة الشمولية وتشكيل الميليشيا المسلحة الداعمة للسلطات الحاكمة لضرب القوى والحركات السياسية المنافسة، كما حدث في إخماد حركة الشواف في الموصل أو تأسيس ميليشيا الحرس القومي كقوة مرادفة لقوى الأمن عام 1963 .

وتحت ظل الحكومات العسكرية المتتابعة بدأت رقعة بعض الأحزاب العلمانية ذات التمويل الخارجي بالتساع مكرسة نشاطها حول اطروحات لا تنسجم وذهنية الشعب العراقي أو مصالحه ، تخفي في نفس الوقت بين طياتها أجندة الدول الممولة لها، حيث تمثل الصراع بين الأحزاب الشيوعية والاشتراكية من جهة والأحزاب ذات النهج القومي المتأثرة بأطروحات الثورة المصرية عام 1952 من جهة أخرى، لتتحول تلك الأحزاب عن دورها في بناء المجتمع إلى حالة مرضية تنخر في بنيته حديثة التكوين، فيما بدأت تتبلور بعض الحركات الإسلامية التي كان لتنامي دورها تفاقم العديد من الظواهر السلبية الأخرى.

فاغلب الاحزاب الدينية تفترض لمريديها واقعا وافكارا معينة وخاصة ذات بعد عنصري، وتضع لاهدافها الاولية في معالجة قضايا المجتمع العراقي على الرغم من ادعائها الموضوعية في الطرح.

كنتيجة حتمية لذلك المخاض والممارسات السلبية ساد العراق العديد من الثقافات السلبية، كان أخطرها ثقافة العنف والعنف المضاد كأداة لمزاولة العمل السياسي.

من جانبهم مارس البعثيون الذين استولوا على السلطة 1968 أبشع أنواع العنف السياسي لتدعيم سلطتهم التي استمرت لأكثر من أربعين عاما، كان لها الأثر البالغ في تفشي الكثير من الظواهر التي تسببت بانقسام المجتمع على نفسه، وعلى مراحل متعاقبة، برز خلالها شكل جديد من الصراع السلبي، حيث استبدل الحراك السياسي  من نزاع محصور بين الأحزاب السياسية إلى نزاع بين الطوائف والقوميات، ليشكل اخطر أنواع التهديد لوحدة العراق وسلامته، خصوصا بعد شرذمة الأحزاب الوطنية وانحسار دورها، مما أدى تدريجيا الى زعزعة الشعور الوطني داخل الفرد العراقي وضياع هوية الانتماء، وتغليب مصلحة الطائفة أو القومية على مصالح الدولة العراقية.

 

بعد إزاحة القوات الأمريكية للنظام الشمولي في التاسع من نيسان 2003  انقشع للجميع حجم الخلاف والفرقة بين أبناء المجتمع العراقي، لذا واجهت  إدارة الحاكم الأميركي بول بريمر وضعا شائكا وشديد التعقيد في تسيير أمور البلاد.

فالانقسام الشديد وانعدام الثقة بين العراقيين كان باديا للعيان وان جهدت العديد من الجهات الوطنية إخفاء ذلك، مما أتاح لبعض الأحزاب الدينية استساغة اللعب على الوتر الطائفي غير مبالية لحجم الشرخ الآخذ بالاتساع بين المجتمع للوصول إلى السلطة وتحقيق اكبر قدر من المكتسبات الفئوية الضيقة دون مراعاة حجم المخاطر التي كانت تتربص بوحدة العراق كدولة موحدة.

استطاعت بعض الاحزاب الدينية عبر استغلال الإشكاليات الايدولوجية  بين أطياف المجتمع المختلفة ان  تحشد اكبر عدد من الأصوات في الانتخابات للوصول إلى دفة الحكم في العراق، لتكرس الانقسام بين طوائفه بشكل رسمي عبر ما تعارف عليه بالمحاصصة الطائفية، جعلت من المجتمع العراقي مجتمعا خاضعا للميليشيات العسكرية والمذهبية والطائفية.

مما زاد الطين بله افتقار الأحزاب الى النضج الكافي والخبرة  في إدارة الأمور  خصوصا في مثل هذه الأوضاع الحرجة التي يمر بها العراق، كما كان لانزلاقها دون وعي منها إلى انتهاج نفس سياسات من سبقها إلى السلطة سابقا في إقصاء وتهميش من يعارضها من الأحزاب العراقية الأخرى، سبب في تعثر تجربتها وخسارتها في كسب رضا مختلف أطياف المجتمع.

فقد بداءت الاعيب الاحزاب السياسية البهلوانية تظهر على الساحة الإنتخابية بعدما تبين للناخب حقيقة البرامج التي قدموها في الإنتخابات السابقة والتي لم ينفذوا منها شيئاً، خصوصا بعد بيان ضعف اقبال الناخبين للتسجيل في الدوائر الإنتخابية، والعزوف عن المشاركة في الإنتخابات القادمة، فبعض الساسة (الشيعة) بدأوا بالضغط على مواطنيهم من خلال الفتوات الدينية والسلطة التاريخية، فيما يقوم بعض الساسة (السنة) بتحويل بعض الجوامع إلى مقرات حزبية، يدعو من خلالها الإمام الى التسجيل في الدوائر الإنتخابية، في حين ان الساسة (الكرد)، بدواء حملة تهديد شملت  الموظفين العاملين لدى الحكومة والذين تخصص لهم النسبة الأعظم من ميزانية اقليم كردستان، وقد هُدِدوا بقطع رواتبهم الشهرية مالم يسجلوا اسمائهم في الدوائر الإنتخابية.

وكنتيجة لما سبق طرحه نستخلص شيئا من الواقع العراقي ببعديه الراهن منه والمستقبل فنقول ان الانسان العراقي سيظل يعاني وعلى مدى ليس بالقريب من مشاعر سلبية ليس اقلها  فقدان الشعور بالمواطنة ، وسريان هذا الشعور الى الانتماءات الاخرى كالإنتماء الطائفي او العرقي ما ينبيء باستشراء حالات الفوضى وسيادة النمط العبثي في الحياة نتيجة لايمان شبه مطلق لدى غالبية الشعب العراقي بعدم وجود فارق جوهري بين البدائل المتاحة فضلا عن الاقتناع السائد لدى عموم الناخبين في الفترة الحاضرة من ان الاشتراك في الانتخابات المقبلة  لن يحدث فرقا في نتائج الانتخابات.

 

 

 

 

  

 

 
 

 

الصفحة الرئيسية | نشاطات المركز | مقالات | عن المركز | بحوث مستقبلية | إصدارات المركز | الهيئة الإستشارية | منار المستقبل | مجلة المستقبل | إتصل بنا

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

 جميع الحقوق محفوظة لمركز المستقبل للدراسات والبحوث / 1426هـ / 2005م

info@mcsr.net