الفضائيات الدينية والإعلام الناجح

 

لطيف القصاب

لا شك في ان الاعلام ظاهرة لا يمكن اغفال ما احدثته وتحدثه من اثر واضح على مجمل حركة تطور الانسان.., ولكن مع كل الحسنات التي احتلت حيزا مهما من سجل الاعلام تاريخيا فقد كان لبعض وسائل الاعلام وما يزال قرار حاسم على صعيد خلق المنازعات وافتعال الازمات وتفجير بؤر الصراع وتزييف الحقائق والحط او الاعلاء من قيمة الاشياء انصياعا لمتطلبات الحرب النفسية وجريا على قانون العرض والطلب السياسي...

وقد امتازت النظم السياسية المعاصرة سيما القمعية منها باتقان ممارسات التضييق على افق الجماهير ووضعهم في اطار بعينه يتناسب مع رغبات السلطة الحاكمة وذلك من خلال انتهاج ما يعرف بالاعلام المركزي الموجه، الا ان ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات الحديثة احدثت كما يبدو خروجا عن مألوف السير التاريخي لحركة الاعلام الموجه على وجه التحديد، فبالرغم من مساعدتها في تضخيم دور الإعلام وتنويع وظائفه الا انها سهلت من ناحية اخرى عمليات اعادة صياغة الرأي العام لامركزيا بواسطة الانتشار الواسع للمحطات الفضائيات السمعية منها والبصرية من جهة ومن خلال ما تعرضه من صيغ متعددة للبرامج الاعلامية التفاعلية.

 وقد آلت حصة الاسد من تلك البرامج الى نصيب متصفحي شبكة الانترنت العالمية على وجه التحديد، وبحسب بعض الدراسات فان الراديو استغرق اكثر من ثلاثة عقود للوصول إلى 50 مليون مستخدم بينما لم يحتج الانترنت لأكثر من 4 سنوات للوصول إلى نفس العدد من المستخدمين, ولعل احد الاسباب في تجاوز الانترنت لزميله الراديو بهذه الفجوة الرقمية الهائلة يكمن في ما ذُكر من تفوق الاول في مضمار الفن التفاعلي وقدرته غير المحدودة نسبيا على ان يكون وسيلة لبث اراء المتلقين انفسهم وتحويلهم الى منتجين للرسالة الاعلامية اكثر منهم مستهلكين.. وبالتالي تشكيله لمجتمعات إعلامية لا تتبع سياسات رؤساء التحرير او مصادر التمويل, الى درجة يمكن ان نعد ثورة المعلومات تلك ثورة مضادة لقيم الاستبداد والتسلط يقود مشاعلها مرتادو الشبكة العنكبوتية في المواقع الالكترونية العامة او حتى في المدونات الخاصة.

ان أي وسيلة اعلامية بغض النظر عن تصنيفها الى مقروءة او مرئية او مسموعة يمكن ان تحقق رواجا منقطع النظير كما هو الحال بالنسبة للانترنت اذا ما توخت تبني المنهج التفاعلي في تعاملاتها مع المتلقين وابتعدت عن مناهج الاملاء والتلقين والتوجيه المباشر الخارجة من ميدان الفلسفة الشمولية التي مابرحت تعّرف الصحافة على أساس أنها أداة للتوجيه و التعبئة والدعاية الإيديولوجية من غير اكتراث بروح العصر وطبيعة المرحلة التاريخية.

لكن هل ان ما اجملناه في الطرح المتقدم ينفي بقاء الحاجة او الضرورة لانشاء وسائل اعلام ذات طابع توجيهي صرف ام ان ذلك  يظل في نطاق الفرضية الذهنية القابلة للنقض والابرام..؟

اعتقد ان أي متابع للقنوات التلفزيونية الفضائية على سبيل المثال يمكنه ملاحظة صور شتى من انشطة وديناميكية الفكر الموجه واستحواذه على نسبة لا بأس بها من عدد سكان العالم حين يقوم بعمليات استعراض سريعة لباقة عشوائية من الفضائيات ذات الطابع الديني والحزبي على وجه الخصوص، وهو سواء كان متقفا مع هذه الحقيقة او مخالفا لها لابد له من الاقرار بان سوق الاعلام الموجه لما تزل سوقا رائجة، والادلة على ذلك هو هذا الوجود الفعلي والمتنامي لتلك القنوات الفضائية الموجهة والتي يُمول بعضها من قبل دول كبرى, منها دول ذات تراث ديمقراطي عريق مثل بعض القنوات التي تُبث من اراضي فرنسا وبريطانيا وامريكا الى شعوب العالم العربي على سبيل المثال، وعليه فان القول الذي يّدعي ان درجة الوعي الانساني التي اقصت فكرة ان يكون الاعلام تحت سيطرة الحكومة او الدولة يمكن تعميمه ليشمل الحزب او العرق او الطائفة او المنطقة مايزال قولا مشكوكا بواقعيته عند ملاحظة تواجد عشرات وسائل الاعلام المحلية والعالمية التي تخاطب شرائح محدودة من المواطنين حتى في بعض البلدان المتقدمة ومنها الولايات المتحدة الامريكية، فبالرغم من وضوح الاجندة  الرامية الى جعل الجمهور المستهدف ينصهر في بوتقة واحدة من حيث التفكير والرؤية والسلوك.. فانها تلقى قبولا طيبا يصل احيانا الى حد الانبهار من قبل ذلك الجمهور نفسه او بعض منه.

وبقدر ما يتعلق الامر بالفضائيات الدينية فان وجودها سيظل ماثلا ما بقيت حاجة الانسان الى التدين وما بقيت جماعة دينية على وجه البسيطة, لكن على تلك الفضائيات خاصة الاسلامية منها لكي تتخطى عوامل الاخفاق الاعلامي  التي اصابت وتصيب عددا منها ان تعمد الى اجراء اصلاحات جذرية على مستوى المضمون والخطاب تتجاوز الآليات التقليدية الى نوع من الحوارات التي تحذو حذو المنهج العلمي الرصين، وحكم كهذا يستند الى قراءة اولية  تتمثل  في كون ان الوسيلة التي تتبع خطابا موجها تمتاز بثبوتها على منحى واحد نادرا ما يتخلله شيء من التجديد على عكس المتلقي المتجدد بطبعه والباحث عن التغيير والمقيم في صميم ساحة اعلامية شديدة التنافس حتى على المستوى الديني....

ومما لايخفى على المشتغلين في الحقل الاعلامي  ان القناة اذا ما ارادت تحقيق نسب مقبولة من النجاح ان تعمل ولو ظاهريا على عزل رغبات وسياسات جهات التمويل عن الخط التحريري, وتحقيق غاية كهذه لا تعد امرا مستحيلا اذا اخذنا بنظر الاعتبار حقيقة ان سائر المؤسسات الاعلامية.... الموجهة منها وغير الموجهة لا تستطيع ان تفصل تماما ما بين ارادة الممول والسياسة العامة للمؤسسة, بيد ان لها اساليب عمل معينة تتمكن بواسطتها من تمرير حكاية انها مؤسسات مستقلة...وذلك من خلال اعتماد اليات التوازن والموضوعية والابتعاد عن المباشرة والسطحية في التعامل مع المتلقي, الامر الذي يبدو صالحا للتطبيق ايضا في القنوات الموجهة مع توفر عنصري الكفاءة والمهنية.

 ان من اهم عوامل النجاح بالنسبة للوسيلة الاعلامية يتمثل في غموض الاجندة التي تجتهد هذه الوسيلة الاعلامية او تلك في توصيل رسائلها وجداول اعمالها..., فكلما كانت الاجندة على مستوى عال من الخفاء والغموض كانت اكثر قدرة على التاثير في اوساط المتابعين, ورغم ان طبيعة القناة الدينية تستلزم العلنية اكثر من غيرها الا انه ينبغي ان تظل بعض الاسرار عصية على الاعلان والتخمين. وعلى اية حال لابد للقناة الدينية من متطلبات نجاح عديدة فضلا عما ذُكر وقد يكون من بين تلك المتطلبات ما يأتي:

* فيما يتعلق بالشكل الفني العام المطلوب للفضائيات الدينية فانه بحاجة الى ان يكون نسخة طبق الاصل عن الفضائيات المنوعة من حيث الاستعمال الامثل لاحدث تقنيات الصورة والصوت... مع مراعاة الضوابط الدينية بطبيعة الحال كما هو المعمول في قنوات فضائية دينية ناجحة.... 

* تحسين بيئة العمل للموظفين والعاملين في تلك القنوات عن طريق اقامة دورات تطوير للكوادر العاملة بغية الاطلاع على اخر المستجدات في عالم الاعلام وتكنولوجيا الاتصال الجماهيري.

* ضرورة الاكثار من انتاج البرامج المباشرة وعدم الاقتصار على البرامج المسجلة، او البرامج المباشرة في مناسبات دينية معينة... ومنح المتابع فرصة كافية للاستراحة والترفيه تتناسب مع معدلات  المرونة ولا تتجاوزها الى الخطوط الحمراء.

* تضمين البرنامج العام للفضائية الدينية نشرات اخبار وبرامج سياسية تحليلية تحاول بقدر الامكان فتح الملفات المغلقة امام متابعيها لما لهذه البرامج من جمهور واسع تصل نسبته في العالم العربي بحسب بعض الاحصائيات الى حوالي 40 %, ولوجود حقيقة تتمثل في ان السياسة لها حضور دائم في ساحة الايدلوجية مهما كانت الظروف.

* التنسيق بين القنوات الدينية بصورة عامة وبخاصة تلك التي تجمعها مشتركات كثيرة ومحاولة الخروج بخطاب اعلامي موحد يؤكد في المقام الاول على اشاعة مبادئ المحبة والسلام والاخاء بين سائر الامم والشعوب ومواجهة افكار الالحاد والفساد سيما الاخلاقي منه ومحاربة نزعات التطرف والدعوة الى اليأس والانتحار...

* تناول المواضيع والقضايا الحساسة دينيا بروح موضوعية بعيدا عن التشنج والتزمت واساليب احتكار الحقيقة لئلا تبقى ساحة الخوض في نقاش تلك المواضيع حكرا على الفضائيات ذات الطابع العلماني.

* استحداث او زيادة برامج المناقشات الأكاديمية الرصينة لطرح قضايا الدين بما يصب في فكرة دحض مقولة... دأب البعض على تسويقها جزافا على انها من قبيل المسلمات وتفيد بان الدين والعلم امران متناقضان.

* اعطاء دور مهم للمرأة في ادارة المقابلات وصناعة البرامج الميدانية, والاعتماد على كوادر اعلامية رجالية ونسائية تمتاز بقابلية عقد روابط الفة ومحبة مع المشاهدين او ما يصطلح عليه بمفهوم (الكارزما) او الحضور.

 * اعتماد اللغة العربية المعاصرة التي تمتاز بالبساطة وتخلو من اللكنة واللحن والتعقيدات اللغوية غير المناسبة عند مخاطبة المتابع العربي... وترك حيز معقول للغات الأجنبية سيما اللغة الانكليزية للتعريف بحقيقة الثقافة والقيم الحضارية العربية والإسلامية من جهة والرد على حملات التشويه الاجنبية المستمرة ضد الدين الاسلامي من جهة اخرى.

* قياس مدى التأثير الذي تحدثه الفضائية الدينية على الجمهور من خلال اتباع طرق استطلاع الراي والاستبيانات والتقارير الاستقصائية الخاصة، ذلك ان اهم مؤشرات النجاح بالنسبة للوسيلة الاعلامية يتجلى في مدى القدرة على تشكيل التفكير والسلوك وتغيير مسارات الوعي الجماهيري او المحافظة عليها او كما يقول عالم الاجتماع الألماني نيكلاس لومان بأن "نجاح الإعلام قائم أولا وأخيرا على قدرته على فرض أجندة جديدة المحتوى والأسلوب على المجتمع". كما ان من اهم مؤشرات الفشل والاخفاق يكمن في الاصابة بمرض التوهم باحراز مستويات كافية من النجاح خاصة لدى القيّمين على ادارة تلك الفضائيات..

 

 
 

 

الصفحة الرئيسية | نشاطات المركز | مقالات | عن المركز | بحوث مستقبلية | إصدارات المركز | الهيئة الإستشارية |