التاريخ؛ قراءة ما بعد الاستعمار  Post-Colonialism

 

 

د.إسماعيل نوري الربيعي

ساهم عصر النهضة الأوربية في إبراز ملامح من القوة التي راحت تتبدى في المزيد من المظاهر الحضارية بحيث  أسهمت في تميز ملامح المبادرة لدى القوى الأوربية التي تمكنت بدورها من فرض سيطرتها وسطوتها على المجتمعات والأمم.لا سيما وأن تراكم الأموال وخبرات الكشوفات الجغرافية والتفوق في مجال الأسلحة النارية، قد مكنها من التمدد الجغرافي والبحث عن المساحات الأوسع من العالم.حتى كان القرن التاسع عشر الذي ميز القسمات الرئيسة لعصر الاستعمار، حين تقاسمت المبادرة فيه القوتان الإمبراطوريتان الكبيرتان، بريطانيا وفرنسا، وما نجم عنه من تمايزات ثقافية باتت اليوم تحضر وبكثافة ، لدى المجتمعات الراهنة التي نالت استقلالها، حيث ثنائية ( الفرانكوفونية- الإنكلوفونية).

تزاحم الثقافات أم الصراع الذي يدور بين القوى وإراداتها؟ هذا ما ينطوي عليه مفهوم ما بعد الاستعمار، حتى كان الوقوف الطويل عند مفردة (المابعد ) بوصفها تمثل فاصلا زمنيا و إيحاءً مباشرا عن تجاوز مرحلة لها تفاعلاتها وحضورها لدى الطرفين ؛ المستعمِر والمستعمَر، إنه مفترق الطرق الثقافي الذي يشير إليه آندي غرينفالد في قراءته عن القصص الأفريقي(1) ومحاولة فكفكته لحالة الانتشار للرؤى والتصورات الثقافية ، وكيفية التمييز بين الفارقة السياسية، التي يمكن أن يتم من خلالها تمييز (الماقبل) باعتبارها سيطرة مباشرة لقوة سياسية على أمة ومجتمع، و(المابعد) بوصفها تحديدا لنهاية الحضور للقوة الاستعمارية، بمجمل تأثيراتها السياسية والاقتصادية والثقافية، وممارسات الهيمنة والسيطرة على إرادة الشعوب، ومحاولة الفرز والتمييز بين حقبة سابقة لها مكوناتها وعلاقاتها، وأخرى جديدة تقوم على محاولة ترسيم معالم التغيير لما خلفه الآخر على نمط العلاقات السائدة لدى المجتمعات الخاضعة ، إنها الممارسة الثقافية المتطلعة نحو ممارسة كم من الجهد الساعي إلى مواجهة التداخل الذي خلفته حقبة السيطرة المباشرة من قبل المستعمر (2)، على صعيد الأنماط والعلاقات والرؤى والمفاهيم، والتطلع نحو أهمية إبراز الجهد في مجال الخلاص من الرواسب التي تركها الآخر على الواقع.

بين مجال القوة الزاحفة والتي تتمترس بوسائلها وأدواتها وغاياتها وأهدافها، من قمع وتهديد وسيطرة عسكرية مباشرة ، ومحاولة لتنميط ثقافة المستعمَر بغية إحراز مجال الهيمنة وتوسيع مدركات التبعية، يتبدى دور القراءة ما بعد الاستعمارية في توجهها نحو مواجهة كم التهجين والتداخل، عبر الوسائل المتاحة ، وباعتبار المتاح فإن الوسائل هذه، تبقى مستمدة من الفروض والتفاصيل التي خلفها المستعمِر، ليطفو على السطح تهجين من نوع آخر قوامه السعي المحموم نحو توكيد الخصوصية والتوجه نحو استدراك وتنقيح ماهو قائم، بحكم ما خلفته عواقب الحضور الاستعماري،(3) وهنا تحديدا تبرز حالة المواجهة في أقصاها، حيث الرغبة الطافحة في محاولة الخلاص من مخلفات الاستعمار ، بما هو متاح من وسائل تم الحصول عليها عن المستعمِر ذاته!

إنها المواجهة التي ما انفكت تحضر بين البنى التقليدية التي تقوم عليها الثقافة الأصلانية، والحداثة التي جاء بها المستعمر، إنها القدرة على الحفز والتغيير والمبادرة التي قام عليها فعل الاستعمار، بإزاء المجتمعات التي نال منها توقف الفعاليات، إلى الحد الذي أصبحت صيدا ومنالا سهلا لمجمل موجهات فعاليات الحداثة ومنجزاتها المادية ، التي راحت تتمثل في قدرتها على الانسياح في حركة الكشوفات الجغرافية، والتوسع في مجال تطوير الأدوات والوسائل التقنية، إن كان على صعيد صناعة السفن أم تطوير الأسلحة النارية ، التي مهدت لنشر مقاليع القوة والهيمنة على الآخر، مترافقة مع زخم من النشاط العلمي والمعرفي والتوجه نحو ترسيخ تقاليد التعليم والقوانين والإدارة والسياسة، في توافق من التفعيل على صعيد حركة النهضة في إيطاليا، والإصلاح الديني في ألمانيا والثورة الصناعية في إنكلترا. إنها التطورات التاريخية التي أبرزت الغرب الأوربي في أقصى حالات انسجامه(4)، في سيطرته على وسائل الاتصال بين الشرق والغرب، وتراكم فائض القيمة الذي أتاح توسيع مجال المبادرة والتنمية، على حساب مقدرات الشعوب والمجتمعات الخاضعة.

كم المنافع والمصالح الذي قامت عليه الفعالية الاستعمارية ، جعل من مواصفات العلاقة، تقوم على سمة الطرفية الواضحة، تلك التي لم تكن لتخل من الاستناد إلى تفعيل مجال الإيحاء والتهديد، حيث التناسق الواضح بين المجمل من الوسائل المستخدمة ، إن كان على صعيد ممارسة القوة المباشرة ( العسكرية ) أم السعي نحو تكريس الهيمنة الثقافية ، تبشيرا أم تكفيرا أو حتى تحقيرا ونبذا وإقصاء.

تقوم قراءة ما بعد الاستعمار على أهمية إبراز محتوى الوعي بالموقع، لا سيما وأن العلاقة تقوم على مدى وإمكانية القدرة على إدراك مكونات وتفاصيل حالة اللقاء بين الثقافتين( المستعمِرة والمستعمَرة)، وبالقدر الذي تكون الحيازة الصادرة عن الثقافة الأصلية قائمة على الرفض والنبذ والمواجهة، أو استناد الثقافة الاستعمارية على الهيمنة والنهب والاستغلال( 5)، فإن المفارق الموضوعي هنا لا يمكن له أن يشكل تأثيرا جادا مالم يستند إلى إبراز ملامح الإدراك الإيجابي بكلا الثقافتين.

تتجلى مظاهر الكتابة الما بعد استعمارية بوصفها وسيلة للكشف، عن السطوة والقهر الذي يقوم عليه فعل الاستعمار، ومن هذا فإن خيار المقاومة المباشرة يكون لها الحضور الفاعل، عبر محاولة استنهاض الهمم وتحريض مجمل القوى الاجتماعية ، وذلك عن طريق حشد المجمل من القطاعات والفئات الاجتماعية، وتكريس نشاطاتها في مواجهة هيمنة الطرف المسيطر، انطلاقا من حفز وظيفة الديني والثقافي والاقتصادي والسياسي، وعلى هذا يبرز دور المنشور والصحيفة وقيادة الحشود في المظاهرات، والخطب الدينية والاعتصام المدني، ليتشكل من خلال هذا خطاب الرفض، مستندا إلى استشعار زخم المكونات الأصيلة الكامنة في المجتمع، والعمل على إبراز مقومات التراث الثقافي ما قبل الاستعماري، بغية تحديد مسار المواجهة مع المستعمر ، الذي يتخذ سلاح الحضارة وسيلة ودريئة لتبرير حضرنة المجتمعات وتحديثها، وفقا لما ينسجم ورؤاه ومعتقداته وتقاليده.ومن هنا يبرز دور التأصيل للهوية الثقافية بوصفها السلاح الأمضى قدرة على مواجهة زحف القيم والمعتقدات التي يعمد المستعمر نحو تكريسها في الوسط المستعمَر. وعلى هذا فإن لحظة إنشاء الخطاب المابعد استعماري، لا يمكن أن يتم تحديده وفقا لنهاية حقبة أو تأسيسا على استعمال توصيف مقنن ومحدد، بقدر ما ينطوي على حالة التفاعل بين إرادة المقاومة وعلى مجمل المواقف المباشرة منها، والتي تتمثل بالفعل المقاوم أو بفعل الرفض على مستوى الوعي بالواقع.فالثقافة الاستعمارية لا يمكن أن يتم حصرها بالقوى المستعمِرة فقط(6)، بل أن الكثير من الأتباع والمنتفعين من المجتمعات الخاضعة يعمدون إلى ربط مصائرهم بالثقافة الاستعمارية، ويضحون منافحين ومدافعين عنها، بل أن الأنكى من ذلك ، يقوم على حالة الانحراف في المعنى الذي يتقمص خطاب الاستقلال ذاته، والذي يقوم أصلا على مناهضة ورفض الاستعمار ، لكن بروز ملامح الدكتاتورية والاستبداد، سرعان ما تكشف عن ملامح التوافق والتماهي مع ثقافة الاستعمار، إلى الحد الذي يجعل من الجمهور ينعون أحوالهم ، ويعمدون إلى مقارنتها مع حقبة السيطرة الاستعمارية.

في هجرة المعاني التي تفرضها حالة التحولات التي يشهدها الواقع، يبرز مجال الاختلاط والتشابك والتبلبل على أشده، حتى تتبدى صورة الانبهار بالمنتصر على حساب السائد والشائع والمتداول على صعيد الثقافة الشعبية السائدة، الصورة هنا يتم الكشف عنها من طريقة الهضم المجزوء للواقع، وهذا ما تبدى في التوجهات التي برزت من لدن النخبة الثقافية والسياسية في البلدان المستعمرة ، والتي راحت تتقمص صورة المنتصر من خلال الإقبال على الزي الإفرنجي، والذي تسلل تباعا عبر المؤسسة الرسمية التي اعتمدت نظام اليونيفورم Uniform  لأجهزة الشرطة والجيش والحرس النظامي، تحت دعوى الاتساق والتماثل والانتظام الذي تستدعيه ضوابط الحداثة، مرورا بتوجهات المثقفين الذين هجروا أزياءهم التقليدية وراحوا ينخرطون في الزي الغربي، فكان طه حسين الشيخ الأزهري الذي حاول الانسجام مع طروحاته الغربية في أعقاب تخرجه من جامعة مونبليه، أو تحول شاعر العرب الأكبر الجواهري من العمامة إلى البدلة الحديثة.

في ظل التماهي مع الثقافة الرائجة بوصفها صاحبة الحضور الأمضى والأشد، كان التطلع نحو النهل الكثيف عن المناهج الغربية ، حتى باتت النظرة إلى التراث تعيش حالة من الابتذال والدونية، ومن هنا استعر التنافس للحظوة برسم الحداثة، والتي راحت تعاني من الفهم المجزوء، لاعتبارات تتعلق باللحاق بركب الموضة، لتتحول مفردات ومفاهيم قيم الحداثة إلى مجرد علامات لغوية خالية من المضمون العميق، هذا بحساب توظيفها خارج السياق الذي صممت لأجله.لقد تفاقمت حمى التعالي على الثقافة الأصلية، حتى بلغت حد استبشاع الدرس التراثي الذي راح يعاني العزلة والارتهان ، هذا بحكم ظهور دور الجامعات في البلدان المستعمرة ، والتي ارتهنت إرادتها بالمناهج الغربية، بل ان مركب النقص راح يبرز في طريقة التقويم لجهودها الذاتية(7)، من خلال النظرة الدونية لخريجيها مقابل الاحتفاء المفرط بخريجي الغرب. إنه الانبهار بالآخر الذي جعل من الوسط الثقافي العربي يحتفي بكاتب لم ينظر إليه بجدية في بيئته الثقافية الغربية يدعى كولن ولسن، ليتم تداول كتابه اللامنتمي بحماس منقطع النظير، أو الانشغال بوجودية سارتر بطريقة يساورها المزيد من الانقطاع المفجع والتداخل في الموقف الفلسفي والسياسي، هذا بحساب تضامنه مع قضية الشعب الجزائري في نضاله ضد الاستعمار الفرنسي، يقول إدوارد سعيد عن لقائه بـ سارتر في أواخر أيامه عام 1979 في شقة ميشيل فوكو في باريس ((قطعت النقاش بشيء من الحدة، مصرًا على سماع رأى سارتر فورًا. وأزعج ذلك أفراد حاشيته، وتوقف النقاش لكي يبحثوا في الطلب. ووجدت ذلك مضحكًا ومؤسفًا، لأن سارتر نفسه لم يتدخل في جدلهم حول مشاركته في الندوة ! في النهاية طلبوا منا العودة إلى الطاولة، حيث أعلن فكتور – الذي لم يخف انزعاجه – بلهجة إمبراطورية فخمة: «غدًا يتكلم سارتر!». هكذا انتهت ندوة اليوم الأول، وغادرنا لكي نعود صباح اليوم التالي لنسمع كلمات المثقف العظيم.))( 8)

أما عبد السلام بنعبد العالي فيعمد إلى تحديد العلاقة مع النموذج السارتري قائلا((  المعنى الأول أن سارتر لم يقرأ عندنا فيلسوفا. فأضاف إلى محاولاته الأولى حول تعالي الأنا والخيالي والتخيل ونظرية الانفعال، فإن الوجود والعدم  ونقد العقل الجدلي لم يجدا صدى كبيرا عندنا. فعدا بعض الصفحات حول النظرة والآخر، وعدا مقدمة الكتاب الثاني التي نشرت مستقلة تحت عنوان »قضايا منهج«، لم يكن لسارتر الفيلسوف بيننا قراء. وربما لم تتجاوز قراءاتنا لفلسفته محاضرته العمومية عن »الوجودية نزعة إنسانية«، ومقدمة كتابه في الانفعال، ومقدمة نقد العقل الجدلي، وصفحاته عن النظرة.))ويمضي بنعبد العالي مستشهدا بـ عبد الرحمن بدوي حول عدم معرفته باشتغال سارتر قبل 1945  بالوجودية،  بل أن إشارته تركز حول الفرق في فهم الوجودية بين سارتر وهيدغر. حتى أنه اعتبر سارتر أديبا أكثر مما هو فيلسوفا.(9)

تبرز طريقة الاستقبال في الوسط المستعمَر أو حتى ما بعد المستعمر، هذا بحساب أن الوجودية قد انتشر صداها في المجال العربي في حقبة الستينات من القرن العشرين، والتي مثلت تصاعد ملامح الاستقلال، لكن ملامح التجميل للواقع كانت هي الأشد حضورا، إلى الحد الذي راحت فيه ملامح المداهنة تتبدى في التداولات الثقافية، حيث الانبهار بثقافة العناوين اللافتة والشعارات البراقة، وبالقدر الذي يكون النسج وفقا للرؤى التوفيقية ، فإن ملامح الفرز الحدي، بين التقدمي والرجعي، المتقدم والمتخلف ، باتت تشكل حضورا بارزا في الحياة العربية ، إنه التشظي الذي يجعل من المواقف في أشد حالاتها انقساما، فالأنا يمثل المجمل من مرتكزات الهوية والأصالة والتراث العميق ، لا سيما على الصعيد الروحي، فيما يبرز حضور الآخر المتقدم والحديث والقادر على الانجاز، لكنه الموغل بالمادية والقهر والقمع والاستغلال.

الإشارة إلى العواقب وليس النتائج، حين يكون الحديث عن الأثر الاستعماري على واقع العلاقات السائدة  داخل المجتمعات المستعمَرة،إنها العلاقات الموّلدة المفتقرة للشرعية، ومسار التهديد الذي تتقمصه بإزاء كل ما هو أصيل ، حيث التطلع نحو تكريس مجال المقارنة بين الحديث بكل ما يملك من مقومات وقدرات، بإزاء العوز والفقد و شح الإمكانات الذي تعاني منه الثقافة التقليدية وصولا إلى تكريس مجال الامتهان والتبخيس والنيل من المقومات الذاتية، بل والتلويح بعصا التهديد من أجل الانضواء في سياق الحضارة والتحديث، إنها الصرامة التي يتبدى بها الإداري الكولونيالي ، بإزاء المتدرب الأصلاني الذي يتم تصويره بالتفاهة والغباء والخبث، إنها الصورة الشوهاء التي يراد أن يتم تكريسها حول أهمية القسوة والحزم والصرامة للتعامل مع النماذج التي تزخر بها المجتمعات التابعة.

أفرزت العواقب الاستعمارية كما هائلا ومفجعا من التمثلات المنقوصة، تلك التي تتبدى في طريقة التعامل مع المنجزات المادية التي قدمها الغرب للمجتمعات التابعة ، إنها المظاهر التي تبرز في المجال العمراني الهجين، في عربات النقل التي يتم وضع العلامات والملصقات الفظة عليها، في تناشز الأزياء، في الاستخدام الملفت للمزيد من المفردات الأجنبية ، بغية توكيد الأهمية والتميز على الآخرين، في البيروقراطية المفرطة التي تعم الإدارات الحكومية، والتي تصل إلى حد إذلال أصحاب المصالح، في بروز النماذج التي تتبنى نموذج الغرب وتهيم به وتستغرق بالنهل عنه،في غياب الوعي بالتحول الحضاري، وبالتالي في سوء التقدير المزمن للسياقات الثقافية، والذي ينجم عنه الصراع الحضاري.

تعكس حالة التأثير التي أبرزتها الحقبة الاستعمارية على الأمم والمجتمعات، في إبراز ملامح ثقافة ما بعد الاستعمار والتي تتداخل فيها فعاليات المواجهة بين سطوة وقوة الحضور التي أفرزتها حقبة الاستعمار ، والتطلع نحو الإفلات من هذه المؤثرات عبر السعي نحو تنقية النص من تراكمات الأنشطة التي قامت بها المؤسسة الاستعمارية، وعلى مختلف القطاعات والحقول المعرفية منها والثقافية.إنها الفعالية التي يتم فيها تحديد غاية الدرس وموضوعه والذي يتمثل في القوة الغربية ، تلك التي قيض لها أن تفرض قيمها ومثلها ورؤاها وتصوراتها وتحدياتها ورهاناتها على مجمل التفاصيل التي تزخر بها الحياة(10) ، وعلى هذا فإن مهمة قراءة ما بعد الاستعمار تنطوي على (( إعادة النظر)) في المجمل من العلاقات والتراكمات والوقائع والأحداث والموضوعات التي أنتجتها العملية الاستعمارية.

ما هو محتوى الإدراك الذي يقوم عليه النص ما بعد الاستعماري، على الوصاية السياسية التي تفرضها مقومات العلاقة السياسية الناجمة عن حقبة الاستقلال، باعتبار الموجه القرائي الراسخ والثابت التي تؤكده السلطة السياسية ، بحثا عن الخلاص من آثار الماضي والتوجه نحو بناء الثقافة الجديدة المتطلعة نحو بناء العهد الجديد ( المثالي والسعيد والحر والمستقل)، أم أن طبيعة النتاج يقوم على إبراز أنماطٍ جيدة في اللغة والمنهج والأسلوب.

لا يمكن التغاضي عن الأثر الذي خلفته الحقبة الاستعمارية على مجمل الخبرات لدى الشعوب والمجتمعات، حتى أن القطاعات الإبداعية تبرز المزيد من ملامح التأثر، التي تتبدى وبشكل مباشر في طريقة تفعيل الرموز الوطنية وعلى المستوى السياسي، إن كان على صعيد النشيد الوطني ، أم العلم الوطني ، أو استعراض حرس الشرف، أم الاحتفال بالعيد الوطني،أم نصب الجندي المجهول، في تبني المناهج الحديثة في كتابة التاريخ الوطني ، المستوردة وفقا للنموذج الاستشراقي، إنها الشعرة الرقيقة الفاصلة بين الاستعماري بكل تأثيراته و إفرازاته على العلاقة القائمة بين الوعي والواقع، واشتراطات النموذج الوطني المستند إلى الاستقلال والخصوصية ورسم ملامح الاختلاف، والخلاص من ربقة الماضي والمقاومة الثقافية.

ما هي الأسس التي تقوم عليها القراءة التاريخية الما بعد استعمارية، هذا بحساب الرؤى والتوجهات التي تم وضعها من قبل الدارسين والباحثين المنضوين في تيار ما بعد الحداثة.

1. المسعى نحو قراءة النصوص الثقافية والأدبية ، انطلاقا من علاقة القوة والسيطرة التي أبرزتها مرحلة الاستعمار، بدءً من ظهور الاستعمار الحديث الذي ترافق مع حركة الكشوفات الجغرافية منذ أواخر القرن الخامس عشر، وصولا إلى ظهور الدولة الوطنية وتنامي حركات التحرر والاستقلال.

2. العناية بالمجمل من النتاجات والنصوص والقيم والمفاهيم التي ساهمت مرحلة الاستعمار في ظهورها ، إن كانت مؤيدة أم معارضة.

3. الاهتمام بدراسة التفاصيل بالوعي السائد ، بناءً على المعطيات الاجتماعية والظرف التاريخي .

4. تأثيرات الفكر الماركسي، لا سيما على صعيد تأثر الوعي بالظرف التاريخي، لكن الاختلاف يتبدى في أن الماركسية تؤكد على الصراع الطبقي، فيما تقوم قراءة ما بعد الاستعمار على الصراع بين مستعمر ومستعمَر.( 11)

تبلورت سمات منهج ما بعد الاستعمار على يد المفكر الراحل إدوارد سعيد، من خلال كتابه الشهير (الاستشراق؛ المعرفة- السلطة – الخطاب) والذي حاول من خلاله إبراز المحتوى التاريخي والثقافي للهيمنة الفرنسية والبريطانية، عبر وصفه بالمشروع الذي يحتوي؛(( الهند و شرق المتوسط، الأقاليم التي تم ذكرها في الكتاب المقدس،السيطرة على التوابل، الجيش والإداريين الاستعماريين، السجلات والوثائق الإدارية، أساتذة الاستشراق)) ، فيما يترصد حالة التحول في القوة المسيطرة والتي تبدت بعد الحرب العالمية الثانية بالسيطرة الأمريكية بوصفها القوة الاستعمارية الناهضة.

يعمد  سعيد إلى وضع فرضياته الأساسية في كتاب الاستشراق، استنادا إلى:

1. حالة التقابل بين الشرق والغرب، باعتبار ما يحتويه، كلا النطاقين من تاريخ فكري وعقلي ولغة وعادات وتقاليد ومفاهيم خاصة.

2. محاولة ترصد مجال القوة الذي ميز التوجهات والبنى الثقافية بين الطرفين ، والوقوف على مدى ترصد مجال السيطرة والهيمنة، وما ينجم عنه من قدرة الطرف الأقوى على التمثيل Representation وأخذ المبادرة بالحديث عن الآخر، باعتبار ما توفق إليه من خصائص ميزته عن الطرف المقابل.

3. اعتماد خطاب الاستشراق على المؤسسة السياسية والاجتماعية الغربية ، من خلال الاستناد إلى تعميق مجال البحث والدرس الجامعي، والسعي إلى تنظيم فعالياته عبر جهود العاملين و تضافرها في الحقول؛ السياسية والثقافية والتعليمية.(12)

لقد تبلورت الاتجاهات الرئيسة لمنهج قراءة ما بعد الاستعمار، على محاولة ترصد العلاقة القائمة بين السلطة والثقافة، من خلال التتبع المباشر لأثر الغزوات العسكرية التي قام بها الغرب نحو الشرق، باعتبار ما تحصل عليه من مواطن قوة ( مالية وعسكرية)، وطريقة المواجهة التي عبر عنها السكان الأصليون بإزاء هذا الزحف. والتكوينات القومية والوطنية التي تشكلت في أعقاب ظهور الاستعمار،والوسائل التي تم اعتمادها من قبل المستعمرين على الصعيد الثقافي في سبيل تركيز ملامح السيطرة، ومجمل النتائج التي أفرزتها مرحلة الاستعمار وعلى مختلف القطاعات؛ السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية.

يرتكز سؤال منهج ما بعد الاستعمار على القراءة الباحثة نحو تفكيك الظاهرة الاستعمارية ، من خلال السعي إلى تتبع جذورها التاريخية وتشعباتها وارتباطاتها العقلية والمعرفية.هذا باعتبار أنها ظهرت في القرن الثامن عشر وقيض لها أن تتوسع وتتركز خلال القرن التاسع عشر.ومن هذا كان السعي إلى القراءة المدققة في التفاصيل التي أيقظت في الغرب هذا التطلع نحو ممارسة الحضور الكثيف على العالم وليس الشرق فقط، ليتوجه الدرس نحو قراءة ملامح العلاقة الفكرية التي أيقظها عصر النهضة الأوربية ، بكل تفاصيله العقلية والمادية، أو المرتكزات المعرفية التي قامت عليها حركة الأنوار الفكرية، وما أفرزته من رؤى وتصورات حول الشعوب والأجناس والأعراق الأخرى، أو سيادة فكرة استكشاف العالم التي ارتبطت بالكشوفات الجغرافية التي بدأت خلال أواخر القرن الخامس عشر الميلادي.وبناء على هذه المعطيات فإن الأسئلة الرئيسة التي قامت عليها منهجية ما بعد الاستعمار إنما استندت إلى :

1.البحث المدقق في العلاقة القائمة بين السيطرة والثقافة.

2. ترصد ملامح نشوء ظاهرة السيطرة الثقافية.

3.العمل على الكشف عن المساوئ والظلم الواقع بحق الشعوب والمجتمعات التي أضحت نهبا للسيطرة والنهب المنظم.

4.السعي نحو تحديد ملامح الوعي الداخلي للشعوب التي وقع بحقها فعل الاستعمار، من خلال وضع المقاربات النظرية مع النظريات والمناهج المعاصرة، ومن مختلف الاتجاهات والمناشيء الفكرية، والعمل على الإفادة منها في المجال التحليلي.

5. التوقف بالدرس والتقصي لمفاهيم التشظي والاختلاف والهجنة ، بإزاء تداولات مفاهيم من نوع التعدد والتنوع الثقافي والهوياتي، حيث التفكيك لمفاهيم الإنسانية والتسامح والعمل على فضح ممارساتها في إطار الممارسة الاستعمارية.

6.الكشف عن النظام اللغوي والخطابي التي تقوم عليه العلاقة الاجتماعية القائمة بين الطرفين، عبر التبصر في المخيال الاجتماعي لدى الطرفين على حد سواء ،( المستعمر والمستعمَر) ومحاولة الوقوف على المعاني الجديدة التي تخلقها تلك العلاقة.عبر الحوار الذي يمكن أن يتم بين الثقافة الشاملة والأخرى الأقلوية، وما يمكن أن يثمر عنه من رموز ومعان .

7. البحث العميق في الاختلاف القائم عند الفضاء التفسيري للنص، هذا بحساب التوقف عند ثقافة الجماعات، وطبيعة الممارسة التي تقوم بها السلطة من إبراز ملامح التمييز العنصري أو الديني.هذا بحساب أن البحث المحموم من قبل السلطة نحو تركيز ملامح الصورة الثقافية الخالصة ، تكون وقد توجهت من حيث لا تدري نحو تقعبل مجال الهجنة، والتي تكون بمثابة الموجه نحو تعميق التقاطع بين الذات والآخر.(13)

 السرديات الكبرى Grand Narratives

ينطوي هذا المفهوم على حدة الشمولية، باعتبار ربطه بالوعي الجمعي، وما يثمر عن طريقة تفكير تميز ذلك المجتمع بإزاء الواقع.إنه خيال الأمة ومخزونها الثقافي وطريقة تداولها للمعرفة الخاصة بها بإزاء مجمل التفاعلات التي يزخر بها العالم.إنه التصور الأيديولوجي للجماعة الذي يحدد معالم أفق الرؤية التاريخية ويرسم معالم التوجهات والمسلمات التي لا يمكن الحياد عنها والمواقف للذات والآخر التي يرتكز عليها الحاضر. إنها طريقة وأسلوب الأمة الثقافي في المواجهة وعلى مختلف القطاعات والمواقف، إن كان على صعيد ممارسة الهيمنة ، أو على صعيد المقاومة والخلاص من الهيمنة.إنها الصورة النمطية التي تتم محاولة ترسيخها حول الشعوب والمجتمعات ، حول تخلف الأفريقي، وتطور الأوربي، هي البديهية التي يتم تداولها حول روحانية الشرق ومادية الغرب، إنه التنميط لصورة الشعوب الأصلانية ووحشيتها وربط وجودها بلحظة اكتشافها على يد المغامر الأوربي، وهو التمويه الذي عمد إلى ممارسته القادر على المبادرة في ترسيخ صورة محددة الملامح للواقع ،(14) باعتبار ما تحصل عليه من وسائل مادية( سلاح ، كنوز العالم الجديد، الطريق إلى التوابل، التبشير) من خلال تقديم صورة وعي شوهاء ، يتم نسجها خدمة لمصالحه في سبيل ترسيخ السيطرة والهيمنة على الآخر، من خلال محاولة السيطرة على توجيه الدلالة الثقافية وربطها بشروط المهيمن ، حتى لتتبدى معالم السيطرة على معارف الأمة من خلال ترسيخ مجال العلاقة ما بين ( المعرفة – الدلالة).

السرديات الكبرى تمثل المعرفة والمفاهيم المتشكلة ، التي تعكس وعي المجتمع للواقع.إنها التصور الذي يحدد مسار الواقع،  والرؤى التي تقوم على توجيه مسار الوعي، إنه الوعي الأيديولوجي الذي يصبغ ثقافة مجتمع ما،ويحدد الموجهات التاريخية فيه.هذا بحساب طبيعة التكييف الذي يقوم بانجازه المجتمع حول الوعي بشروط الموضوعية، باعتبار التواطؤ على المعاني وفقا للظروف التي يعيشها المجتمع على مستوى الزمان والمكان.تلك الموضوعية التي تكون بمقدار الإجماع على قبولها، لتظهر الأيديولوجيا بوصفها مفهوما اجتماعيا وتاريخيا، من خلال انتقال الفعالية ...العلاقة من وصف الواقع إلى الكيفية التي يتم بها إنتاج الوعي للواقع.(15)

في صراع الدلالات الناشب بين الثقافات التي تحوزها المجتمعات ، تتمثل حالة الامتداد والانتشار للأنماط المعرفية التي برزت في المجال الغربي ، وراحت تبرز تأثيراتها على الثقافات الأخرى ، وهكذا يتبدى دور السرديات الكبرى ، من اشتراكية وليبرالية وقومية، في محاولة تركيز حضورها على حساب السرديات الأخرى، أو على صعيد محاولة إثبات حضورها في الثقافة المجتمعية للآخر.وبالقدر الذي يبرز دور الصراع الحاد بين القوى الغربية في سبيل فرض الهيمنة والسطوة ، فإن المظهر السردي كان أحد أهم عوامل الشقاق والتناحر ، والذي لم يتوقف عند حد الشحن والتنافس بين المعسكرات ، بقدر ما توسع حتى بات يشمل تقسيما وتجزيئا للمجتمعات الطرفية ، والتي راحت تدخل في مضمون الصراع عبر توجيه زخم السرديات في صلب التفاعلات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، إنها الوسيلة التي تم من خلالها تسلل الغرب في صلب العقائد والممارسات وترسيم معالم الحياة وتفصيلاتها ، إن كان على صعيد الموقف السياسي او بين صراع القوى الكبرى ، أم على صعيد التفاصيل التي تزخر بها الحياة ، من أزياء وفنون وذوق عام ووسائل اتصال.(16)

يبرز دور الجهد المعرفي الذي أنجزته حركة ما بعد الحداثة، في الكشف عن التناقضات الحادة التي قام عليها مفهوم السرديات الكبرى ، إذ أقدم ليوتار وفوكو وجوليا كريستيفا وجاك لاكان وتودوروف وآخرون، للتصدي إلى المجمل من الهيمنة التي فرضتها رؤية السرديات على العالم ، عبر سطوتها الجامحة على التاريخ وتوجيهه، وادعائها الدائم بإمساكها بخيط الحلول للبشرية، وتركيز خطابها على الإنسانية والعدالة والمساواة، في الوقت الذي يتم فيه ارتكاب أبشع الأخطاء بحق البشرية ، من قتل وتدمير وإفناء وتحجيم لإرادة الشعوب.إنه المسعى الثقافي المتطلع نحو كسر سطوة امتلاك الحقيقة من طرف واحد ، والعمل على تقديم الثقافة الهامشية إلى الواجهة والسعي لدراسة الأدب والثقافة والمجمل من النتاج الثقافي الذي تنتجه الشعوب والمجتمعات ، من دون الوقوف عند معطى الأهم والأقل أهمية ، بقدر ما يكون التطلع نحو العناية بالمجمل من النتاج الإنساني، وعلى هذا فإن تأثرات هذه الحركة الفكرية أبرزت المزيد من التأثير ، لا سيما في مجال ظهور الحركات الثقافية والاجتماعية الجديدة ، مثل النسوية والزنوج(17)

 

لم تتوقف حركة الاستعمار على البعد العسكري والاقتصادي فقط، إنما صاحبته جملة من الفعاليات التي اعتمدت على الجهد الثقافي، ومن هنا تبرز ملامح الشمولية للمشروع الاستعماري، الذي عمد نحو ترسيخ قيم ومبادئ التمركز الغربي ، بإزاء تهميش وإقصاء الآخر الذي تم توصيفه بالهمجية والعري وسيادة روح الخرافة والبدائية واللاتحضر واللاتدين.ومن هذا المدخل كان المسعى نحو توظيب مشروع السيطرة على الأرض والثروات والسعي إلى مصادرة حقوق الآخر، انطلاقا من العمل على إلغاء وجوده ، تمهيدا لتهجير المجتمعات أو السعي على إبادتها جماعيا كما حدث لقبائل الهنود الحمر، أو استعبادها كما حصل للملايين من سكان أفريقيا، ونقلهم بوصفهم عمالة رخيصة للعمل في حقول العالم الجديد الزراعية.

تنطوي مفردة الاستعمار على محاولة تكريس مضمون السردية الكبرى، والمتعلقة باللعب على الواقع ، عبر تبرير فعل الإبادة والقتل ولتهجير الذي تمت ممارسته بحق الشعوب ، فرسالة التمدين والتحضر ونقل رسالة السماء، كانت الرسالة التي تم تقديمها، ليكون فعل الوصاية على هذه الشعوب المتأخرة من قبل الشعوب الأعلى ، ومن ثنائية الأعلى والأدنى، تم الترويج لسرد العالم وفق منطق التمركز الاستعماري الذي استند إلى :

1. تكريس مجال القتل والتهجير والإبادة للمجتمعات، تحت دعوى وحشيتها وجهلها وبدائيتها.

2. العبث بالتاريخ الوطني للمجتمعات، ومحاولة إخضاعه لموجهات ومصالح القوى الاستعمارية.

3. تكريس مجال التفوق والترويج لأسطورة الأوربي المتمدن القادر على تغيير العالم.الساعي إلى نشر الإنسانية وقيم التحضر.

4. سلب المجتمعات مرتكزاتها الثقافية الأصيلة، والعمل على تركيز دور النخب المرتبطين بالمصالح الاستعمارية، وتكريس مجال التبعية.

في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، وظهور حركات الاستقلال الوطني ، وتنامي الوعي الاجتماعي والثقافي والسياسي، وحالة التبدلات الاقتصادية التي شهدها العالم، برزت للعيان ملامح وعي جديد برزت تباشيره في ثورة الطلبة في فرنسا عام 1968، وما نجم عنه من تصاعد حركة فكرية أطلق عليها تيار ما بعد الحداثة ، والمستند إلى نقد العقل الغربي والعمل على تفكيك أنساقه ،والتي أكدت على سقوط فكرة سيادة امتلاك الحقيقة لطرف على حساب آخر.وفي هذا برزت الأعمال الفكرية لـ ميشيل فوكو، جوليا كريستيفا، تودوروف، جاك لا كان ،دي سارتو ،يورديو ،باشلار ،لوفيفر ،غورغوفيتش، وآخرون. والتي مثلت المهاد النظري لأعمال إدوارد سعيد  وجماعة مدرسة التابع في الهند، وجماعة دراسات التابع في أمريكا اللاتينية وأفريقيا، والتي راحت تحث جهودها المعرفية في دراسة الهوية والهيمنة والمقاومة.

 

دراسات التابع Sublament Studies

تبلورت ملامح مدرسة التابع من خلال الجهود التي قدمها المؤرخ الهندي رانجيت جحا منذ العام 1982 ، عندما عمد إلى إصدار دورية علمية اتخذت عنوان ( دراسات التابع) تختص بدراسة تاريخ الهند وفق تصور جديد ، يقوم على أهمية الإفلات من سيطرة القراءة التقليدية ، والسعي إلى تقديم الدور الذي قامت به الجماعة التابعة في تاريخ الهند ، وليس استنادا إلى الهيمنة الاستعمارية ، أو التصور الذي تم تجذيره عبر وجهة نظر البورجوازية الهندية.وقد استقطبت هذه المدرسة جهود العديد من المنظرين الهنود ، من أمثال ؛ هومي بابا ، غياتري سبيفاك، بارتا تشارجي، جيان بركاش، ديبش شاكرابارتي،  حيث انصبت الجهود للعمل على البحث عن جوهر الثقافة الهندية وتخليصه من الشوائب التي خلفتها ثقافة الإمبريالية.وتقوم الركائز المعرفية لهذه المدرسة على:

1. أهمية البحث في الدور الذي قامت به فئات الفلاحين والعمال والمرأة، في صناعة التاريخ الهندي.

2. محاولة الخلاص من القراءة التقليدية المرتبطة بالدور الذي قامت به النخبة السياسية.

3. دراسة حالات الصراع بين القوى الرئيسة داخل المجتمع الهندي.

4. الاستناد إلى الرؤية النقدية الساعية نحو الإفلات من المركزية الغربية، والعمل على تعميق الخصوصية القومية والمحلية.

5. استثمار الجهود المعرفية التي أسست لها مدرسة ما بعد البنيوية الفرنسية، وتنظيرات وكتابات إدوارد سعيد ، لا سيما في كتابيه ؛( الاستشراق   Orientalism ,new york 1978  ، والثقافة والإمبريالية Culture & Imperialism ,new york 1993.)  وطروحات فرانز فانون في كتبه،( المعذبون في الأرض، بيض الأقنعة سود الوجوه، سوسيولوجيا الثورة).(18)

تبرز أهمية فرانز فانون  Franz Fanon ولد 1925، في طبيعة نشأته، فهو من أبناء المستعمرات الفرنسية ، حيث ولد في جزر المارتنيل، وعاش حدة الانقطاع عن جذوره باعتبار تلقيه العلوم الغربية، وخلال ممارسته مهنة الطب النفسي، وقع على حدة جذور المشكلة العنصرية ، وما يترتب عنها من ؛اضطهاد واستلاب ثقافي، ومن واقع تفاعله مع التطورات العالمية و جد "فانون" أن الثورة تمر في ثلاث مراحل، حيث تقوم على عنف المستعمر، وفي الثانية تصاعد الانقسامات الداخلية على المجتمع، وفي الثالثة توجه الانقسامات والتناقضات الداخلية نحو المستعمر ذاته. ولم يغفل عن دراسة أهمية دور المثقف في عملية التغيير ومواجهو الانسحاق،(19) عبر تماهي المثقف مع ثقافة المستعمِر، ومن ثم مرحلة الشك والقلق، وصولا إلى تحول المثقف إلى داعية للتغيير.

أما المنطلقات النظرية لكتاب إدوارد سعيد؛( الثقافة والإمبريالية) ، فإنها تقوم على العناصر الرئيسة التالية:

1. حالة المشاركة التي أبرزتها التجربة الاستعمارية ، من حيث شمولها وسعتها، وحالة التلاقي بين المجتمعات المختلفة، على الرغم من المجازر والدماء والسيطرة والهيمنة التي تبدت خلالها.وفي هذا يحيل التصنيف المشترك، في المتداول الراهن ، إلى  الروابط القائمة بين الهنود والبريطانيين ، أو الفرنسيين والجزائريين.

2. المثقف والمبدع هو نتاج بيئته الاجتماعية ومضامين وعيه التاريخي الخاص، ومن هذا فإن التركيز راح يتوجه إلى انتقاء نماذج إبداعية،  بعيدا عن المؤثرات الأيديولوجية والطبقية أو المصالح الاقتصادية.

3. محاولة التركيز على الجهد الإمبريالي الذي تبدت عليه بريطانيا وفرنسا وأمريكا لا حقا في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، من حيث الجهد الثقافي الذي أبدته تلك الإمبراطوريات مترافقا مع جهدها الاستعماري.

4. التمركز الغربي، وطريقة التعامل مع الشعوب الأخرى بوصفها أصلانية ، هذا المصطلح الذي يتخذ طابعا تحقيريا في ثقافة المستعمر، ومهما تعززت حالة الهجرة إلى الغرب، وسعى المهاجرون إلى التماهي والتفاعل مع المحيط الغربي، فإن النظرة إليهم تبقى تقوم على الفصل المحسوس والمباشر في الكثير من الأحيان، إنه الفصل الذي تبرزه مصطلحات من نوع بريطاني آسيوي، أو أمريكي أفريقي،(20) أو فرنسي شمال أفريقي.

ينطوي الجهد المعرفي للمفكر الهندي هومي بابا على تمييز موقع الثقافة باعتبار التمييز بين معرفتين ظاهرة ومستترة.ومن هذا يكون استغراقه في إعادة النظر بمفهوم الحداثة باعتباره نتاجا معرفيا غربيا ، لم يقم فقط على الاستعباد والإفراط بالقوة والتمييز العرقي والطبقي، بقدر ما ينطوي على حالة الاختلاف الاجتماعي في طريقة تمثل مفهوم الحداثة ، عبر البحث الجاد في طريقة نشأتها وأصولها العرفية المؤسسة.إنه البحث الساعي نحو تفكيك المفهوم استدلالا بطبيعة التراتب الذي يفرزه الواقع(21)، وطبيعة الرؤى والتصورات التي تحكم توجهات الحداثة، باعتبار رصد التناقضات التي يزخر بها الواقع من حيث تمييز مفاصل الواقع المراد منه أن يكون حداثيا بوسائل وإجراءات لا حداثية ، ومن هذا الكشف للتناقض، يتوجه بابا نحو البحث في تحديد موقع العلاقة بين المركز والأطراف، في الجوهر الذي يتم من خلاله توكيد  المعنى وفقا للرؤى والتصورات التي يختزنها الغرب، من دون التوقف أو التمهل بالأصول المعرفية لثقافة الآخر، ومن هذا المعطى تتبدى الأزمة في الوعي بالهويات والموقع الاجتماعي، ليبرز الصدام بين الثقافة الأصلية الساعية نحو توكيد ذاتها وحضورها ، بإزاء التنميط الذي يحرص الغرب على إبرازه في نموذج قوامه الفرض والقسر والإسباغ.

إن حرص الغرب على تعميم تجربته الثقافية والروحية والمادية ، إنما يقوم على إفراد ملامح الأوج والقدرة على الانسياح، ليكون المسعى نحو فرض النموذج الواحد، التعالي على المجمل من المكونات الأصيلة التي تقوم عليها ثقافة الآخر، وبالقدر الذي تتلازم الأزمة في التمييز بين الشرق والغرب ، أو المركز والأطراف، فإن هومي بابا يحرص على دراسة مواقعات ( المواجهة والتبادل)التي تتم على الصعيد الثقافي بين الحضارات، هذا بحساب إنكاره لمفهوم  نقاء الهوية الثقافي(22).إنه البحث في لحظة التشابك الذي تخلقه لحظة الواجهة ، ليتم تشكل معرفة جديدة خارج التوقعات المعهودة المسلم بها.

هوامش:

1. آندي غرينفالد، ما بعد الكولونيالية في القصص الأفريقي المعاصر، ترجمة نجاح الجبيلي، جريدة المدى ، 27 آب 2006.

2. هومي بابا، موقع الثقافة ، ترجمة ثائر ديب، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة 2004، ص 74.

3. إدوارد سعيد ، العالم والنص والناقد ، ترجمة عبد الكريم محفوظ، اتحاد الكتاب العرب، دمشق2000، ص 48.

4. إدوارد سعيد ، الثقافة والإمبريالية ، ترجمة كمال أبو ديب، دار الآداب، بيروت 1998، ص 57.

5. تيموثي ميتشل، مدرسة دراسات التابع مسألة الحداثة ، ترجمة بشير السباعي، مجلة ألف، ع 18- 1998، ص 101.

6. تيري إيغلنتون، أوهام ما بعد الحداثة ، ترجمة ثائر ديب، دار الحوار، دمشق 2000، ص 18.

7. هنري إيكن، عصر الأيديولوجيا، ترجمة محي الدين صبحي، وزارة الثقافة، دمشق 1971، ص 21.

8. إدوارد سعيد، سارتر والعرب، ملاحظات هامشية، مجلة أوراق فلسفية العدد 14.

9. عبد السلام بنعبد العالي، سارتر والثقافة العربية ، مجلة نزوى، العدد 45 ص 36.

10. هربرت ماركوز، الثورة والثورة المضادة ، ترجمة جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت 1973، ص 25.

11. إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية ، ترجمة كمال أبو ديب، دار الآداب، بيروت 1998، ص 251.

12. إدوارد سعيد ، الاستشراق، ترجمة كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية ، بيروت ط5 2001، ص 40- 42.

12. بيل أشكروفت وآخرون، الرد بالكتابة النظرية والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة، ترجمة شهرت العالم ، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2006.

13. إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية ، ص 16

14. هنري إيكن، عصر الأيديولوجيا ص 21

15. ديفيد هارفي،حالة ما بعد الحداثة ، ترجمة محمد شيا، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت 2005،  ص 17

16. معن الطائي، جماليات التزييف، مجلة جدل، العددان 3-4، 2006.

17. روبرت يانج، أساطير بيضاء، ترجمة أحمد محمود، مكتبة الأسرة ، القاهرة 2005.، ص 297.

18. المصدر نفسه، ص 264.

19. إدوارد سعيد ، الثقافة والإمبريالية ، ترجمة كمال أبو ديب.

20. ثائر ديب، هومي بابا والمنظور ما بعد الكولونيالي، مجلة نزوى ع 39، ص 41.

21. روبرت يانج، أساطير بيضاء، ص 277.

 

 

 

 
 

 

الصفحة الرئيسية | نشاطات المركز | مقالات | عن المركز | بحوث مستقبلية | إصدارات المركز | الهيئة الإستشارية | منار المستقبل | مجلة المستقبل | إتصل بنا

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

 جميع الحقوق محفوظة لمركز المستقبل للدراسات والبحوث / 1426هـ / 2005م

info@mcsr.net