سوق الأوراق المالية الدولية بين الاستثمار والاستئثار

     أ.د عبد الرسول عبد جاسم

   تعتبر سوق الأوراق المالية قناة مهمة لتمويل الاستثمار لكونها تمثل سوقاً لتراكم رأس المال وذلك لقدرتها على توظيف رؤوس الأموال, كما هو عليه الحال في المجالات الاستثمارية الأخرى, من جهة ولارتباطها الوثيق والمهم باقتصاديات السوق من جهة أخرى, إلى جانب بروز ظاهرة تقويم أسعار صرف العملات وأسعار الفائدة على الصعيد الدولي, والذي أدى في الكثير من الأحيان إلى عدم وجود أية عوائق أمام تدفقات رؤوس الأموال بهيئة أدوات ائتمانية وادخارية متنوعة وعملات أجنبية, سيما وأن تطور الأسواق المالية هذه جاء في أعقاب التطورات الاقتصادية واتساع حالات الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري, حيث ظهرت مؤسسات لتوظيف المدخرات في المجالات الاقتصادية الإنتاجية المختلفة, باعتبارها حلقة وصل بين الأفراد والمؤسسات المختلفة التي تقوم بالادخار وبين المشروعات المنتجة في الاقتصاد.

هيكل التعامل في أسواق الأوراق المالية الدولية.

يعتبر الاستثمار في سوق الأوراق المالية من بين المجالات الاستثمارية المهمة التي تستلزم وضع الأسس الكفيلة بإنجاح العمليات الاستثمارية في هذا المجال, وذلك لتحقيق الاختيار الناجح لتشكيلة الأوراق المالية في السوق دون التضحية بالعائد المتوقع من وراء تلك الاستثمارات. وبذلك فإن القرار الاستثماري في هذه السوق مرهون بجملة من المعطيات منها:

1. مقدار العائد: وهو ما يعكس حجم الأرباح أو الخسائر التي يحصل عليها المستثمر والتي غالباً ما يعبر عنها كنسبة مئوية من رؤوس الأموال المستثمرة.

2. درجة المخاطر: وتمثل احتمالات المخاطر المتوقعة أو ما يسمى بعنصر عدم التأكد (Uncertainty) في مجال تقييم المشروعات, إذ إن الأسهم التي تحمل عوائد أو مردودات مماثلة ليست بالضرورة تحمل نفس معدلات الخطورة, مما يدفع المستثمر الى وضع تقييم للوصول إلى حالات من الموازنة بين معدلات الأرباح وما ينشأ عنها من مخاطر وبالشكل الذي يجعل قراره أقرب إلى الصواب.

3. الوقت: إن شراء الأوراق المالية محدودة بفترة زمنية حيث يتحدد بموجبها الوقت الذي يحتفظ فيه المستثمر بالأسهم والسندات, إذ إن عامل الزمن يرتبط بنوع الشركة, ونظرة المستثمر وتوقعاته لنموها وتطورها, وهكذا يمكن تحديد المتحكمات الأساسية في سوق الأوراق المالية بما يأتي:

أ. سعر الفائدة: يؤثر اختلاف سعر الفائدة بشكل معاكس على أسعار الأوراق المالية، إذ إن ارتفاع أسعار الفائدة يؤدي إلى انخفاض عمليات التعامل في الأسواق المالية, وبالعكس فإن انخفاض أسعار الفائدة يعمل على ترويج التعامل في الأسواق المالية, أما قياس درجة تلك المؤثرات فيتم باستخدام نسب التغير في الأصول والخصوم التي تتأثر بتلك التغيرات أو التذبذبات.

ب. السيولة: وهي الموجود النقدي المتوفر لدى المستثمر أو المصرف أو المؤسسة المالية وبالشكل الذي يضمن سد الاحتياجات بحيث لا يضطر لبيع الأوراق المالية التي بحوزته والتي قد تسبب الخسارة أحياناً ويتم قياس السيولة بالتعرف على نسبة الاستثمارات المالية إلى مجموع الودائع أو الموجودات.

ج. الائتمان: يبرز دور هذا المتحكم في المصارف والمؤسسات المالية في حالات عدم قدرة الجهة المصدرة للأوراق المالية على السداد في الأوقات المقررة وخاصة عند اختلاف التوازن ما بين القروض والائتمان ونسبة الخسائر في القروض.

د. رأس المال: ويمثل حالة القدرة أو عدم القدرة على تغطية أقيام الأوراق المالية المصدرة ولا سيما عندما تكون هناك خسائر؛ الأمر الذي يتطلب الاهتمام بهذا العنصر ومراقبة حقوق الملكية التي يتمتع بها البنك أو المؤسسة المالية أو الفرد المستثمر.

هذا ويحتاج المستثمر الذي يريد خوض التعامل في الأسواق المالية الدولية إلى مجموعة من المعلومات تتيح له فرصة اتخاذ القرار بمعرفة كاملة بالملابسات الناتجة عما يتخذه من قرارات. تلك المعلومات التي يمكن تقسيمها إلى ما هو سابق لاتخاذ قرار الاستثمار, وما هو لاحق له, ولا سيما تلك التي تتيح للمستثمر تقدير ما يختاره وما لا يختاره من أوراق مالية أو سندات بما في ذلك المعلومات التي تهيئ له متابعة عناصر محفظته, وما يصدر من نشرات تلخيص لخصائص أسهم الشركات والسندات المطروحة, وأوضاع الهيئات المصدرة وكذلك أوضاع الاكتتاب نفسه, إلا أنه غالباً ما تتسم هذه السوق (السوق الدولية للأوراق المالية) بعدم وضوح ماهية المستثمرين ومعرفة ما يتخذونه من مواقف وما يتبعون من سلوك حتى من خلال مصادر الإعلام المتوفرة, وخاصة بالنسبة إلى المؤسسات المالية المشتركة فالبنوك الكبرى وصناديق الاستثمار التي بدأت تلعب دوراً في سوق الأسهم والسندات الدولية لا تفصح إلا نادراً وبصورة مبهمة عن السياسة التي تنتهجها بشأن الاستثمار والتي كثيراً ما تعتمد على عنصر الحدس وتأثير العوامل النفسية, هذا إلى جانب التعامل السطحي بالمعلومات المتوفرة, وبناءً عليه فأن مسألة التعامل في هذه الأسواق يعتمد على أمرين هما:

الأول: أهمية الدور الذي يلعبه تجار الأوراق المالية وبيوت السمسرة بشأن توجيه المستثمرين وتقديم النصح إليهم ومساعدتهم في كيفية ترشيد واتخاذ قراراتهم.

والثاني: أهمية العمل على زيادة وعي المستثمرين بما هم يقومون به أو يقدمون عليه وضرورة العمل على زيادة إلمامهم بمختلف جوانب السوق التي يريدون الاشتراك أو التعامل فيها.

حيث أن سوق الأوراق المالية الدولية تعتبر مؤسسة مستقلة تحكمها ظروف فنية مختلفة إذ إن الوضع الاقتصادي للشركة أو حتى الوضع الاقتصادي ككل لا يعكس بالضرورة اتجاهات الأسعار- كما هو شأن السوق السلعية- فقد يكون وضع الشركة جيداً وكذلك الوضع الاقتصادي متيناً إلا أن الأسعار قد تتجه نحو الهبوط, والعكس صحيح, فالتحركات الدورية في الأسعار قد تتأثر بأحداث فنية أو سيكولوجية أو عاطفية غير منظورة. ومن هنا برز قسمان من الأسهم والسندات في السوق المالية, فئة منها تتجاوب مع حركة السوق وببطء، وفئة أخرى تتحرك بصورة أكثر فاعلية في مثل تلك الظروف؛ فالتحليل الفني للسوق يتطلب تحديد أفضل الأوقات للدخول في السوق, وهي التي تبين الفرق ما بين المستثمر الناجح والمستثمر غير الناجح.

آلية التعامل في أسواق الأوراق المالية الدولية.

تصدر الأوراق المالية إما مقومة بعملات حقيقية متداولة في دولة من الدول وهذا هو الغالب إما بوحدات نقدية "حسابية" أو "مركبة" لا تتداول بالفعل وإنما تستخدم فقط كوحدات للقياس، وذلك لما لها من مزايا العملات الحقيقية لتجنب ما قد يطرأ على العملة من تقلبات قد تضر بمصلحة المتعاملين في السوق المالية ويتم التعامل بها في هذه الأسواق على وفق مؤشرات يتم على ضوئها تحديد التوجهات التي يمارسها المستثمرون والمضاربون والمحللون الماليون في الأسواق المالية... وهي:

* المؤشرات الاقتصادية: تتأثر حركة أسعار الأسهم والسندات في السوق المالية بالمؤشرات الاقتصادية التي تعكس بدورها مدى صحة التكهنات والتوقعات في السوق, مثل حالة الإعلان عن ميزانية مالية ضخمة أو نهج استثماري طموح, والذي يعني توقع ارتفاع الأسعار بشكل عام, كما أن القيام بضخ أموال إضافية للسوق من شأنه أن ينعكس على حالة وأوضاع الأوراق المالية في البورصة في البلدان السائرة في طريق النمو وهكذا في اعتماد إحصاءات الإنتاج الصناعي أو الناتج القومي أو الدخل القابل للتصرف كمؤشرات في أسواق البورصة في الدول المتقدمة.

* المؤشرات النقدية والمالية: وهي من أهم المؤشرات لمعرفة اتجاهات الأسعار في السوق المالية إذ إن ارتفاع أسعار الفائدة يؤدي إلى توجه المستثمرين نحو الإيداع في المصارف, والقيام ببيع أسهمهم في السوق فيزداد المعروض منها وتنخفض أسعارها في حين تتجه الأموال نحو السوق المالية في حالة هبوط أسعار الفائدة في المصارف أو تحويلها إلى سوق السندات. كما أن زيادة عرض النقد سواء أكان في اقتصاديات الدول السائرة في طريق النمو أو المتطورة تؤدي إلى ارتفاع أسعار الأسهم وبعكسه فأن انخفاض معدلات نمو عرض النقد سوف يعمل على انخفاض أسعار الأسهم, وعليه فأن تدخل البنوك المركزية في توسيع عرض النقد أو تقليصه ينعكس على تحول أسعار الفائدة نحو الارتفاع أو الانخفاض ومن ثم التأثير على اتجاهات الأسعار في السوق المالية تبعاً لذلك.

* حجم التداول في البورصة: إن عدد الأسهم والسندات المتداولة في السوق المالية يحدد قوة السوق وتوقعات صعوده أو هبوطه بالمستقبل إذ إن كثافة حجم التداول تعني تفاؤل المستثمرين وإقبالهم على الاستثمار في السوق وما يتبعه من ارتفاع في الأسعار نتيجة لذلك. أما إذا حققت السوق تقدماً أو عرضاً ولم يرافقه تداول كثيف, فعندها تبقى الأسعار على حالها أو تتجه نحو الانخفاض بسبب الجمود النسبي للمشاركة, وبالتالي توجه المستثمرين نحو تصفية استثماراتهم حيث تستمر الأسعار باتجاهات النزول. ومن هنا يتبين لنا بأن كثافة التداول وزيادة الأسعار هي التي تولد الطلب والتي يعقبها حصول الزيادات المتتالية بعد ذلك... فالطلب إذاً ليس وحده الذي يؤدي إلى زيادة الأسعار في الأسواق المالية... وهكذا فأن لهذه السوق خصائص تختلف عما هي عليه في الأسواق الاستثمارية وأسواق السلع الاستهلاكية وهي التي تعكس فاعلية آلية العملية الاستثمارية في تلك الأسواق, والمتمثلة بما يأتي:

* الطابع الفردي لهذه الأسواق مما يجعل المستثمر يواجه أطرافاً قوية في جانب الإصدار والتسويق ممثلة بالهيئات العامة والشركات الكبرى وهي التي لها القدرة على الخوض في السوق الدولية.

* إنه من الصعب على المستثمر أن يلم إلماماً كافياً بالأوضاع السائدة في الأسواق بصفة عامة وكذلك بأوضاع الهيئات التي يستثمر أوراقها وكثيراً ما يعتمد المستثمر في هذا الشأن إما على بضعة معلومات عامة وإما على نصائح وإرشادات المتاجرين بالأوراق المالية. هذا إذا ما علمنا بأن غالبية المستثمرين يلتجئون إلى خدمات المتخصصين نظراً لما يفرضه هؤلاء من شروط ومن رسوم قلما ترتبط بنوعية الأداء وفعاليته.

* يحتاج حملة الأوراق المالية وخاصة حملة السندات إلى تشديد حمايتهم ليس من المخاطر في السوق العادية والناجمة عن تغير سعر الفائدة أو أسعار الصرف أو ائتمان الأوراق المالية, وإنما المخاطر الناجمة عن تخلف المدينين (وخاصة في سوق السندات) عن أداء التزاماتهم, والمتمثلة في صعوبة الحصول على العملات الأجنبية عند التسديد أو التأخر عن دفع الفوائد والأقساط, أو فرض الرقابة على الصرف أو فرض الضرائب, كالضرائب على التحويلات وغير ذلك.

 

تحليل واقع الاستثمار في الأسواق المالية الدولية.

لقد أصبح الاقتصاد العالمي, إزاء الأهمية المتزايدة لرأس المال في صناعة الخدمات المالية بمكوناتها المصرفية وغير المصرفية, أداة تحركها مؤشرات ورموز البورصات العالمية (داوجونز، ناسدك، نيكاي، داكس، كيك...) والتي تؤدي إلى نقل الثروة العينية من يد مستثمر إلى آخر دون عوائق أو حتى عبر الحدود الجغرافية حيث الحركة المستمرة لرؤوس الأموال الباحثة عن الربح أمام فوائضها المتراكمة وتوفير ضمانات لأصحاب هذه الأموال وتنويعها من خلال الآليات التي توفرها الأدوات المالية والتحكم في الأسواق المختلفة. فعلى سبيل المثال لا الحصر أشارت تقارير البنك الدولي إلى أن حجم التعامل(1) على الصعيد العالمي بلغ لسوق (اليورو- الدولار) حوالي (300) مليار دولار في يوم العمل الواحد، أي ما يقارب (75) تريلون دولار في السنة في حين لم يتجاوز حجم التجارة في قطاع السلع والخدمات (3) تريلون دولار حتى أضحت خطراً يهدد اقتصاديات العالم؛ فقد أثبتت تجارب عقد التسعينات من القرن الماضي أن هذه الحركة للكميات الهائلة من رؤوس الأموال كثيراً ما أدت إلى حدوث أزمات وصدمات مالية مكلفة (في المكسيك، النمور الآسيوية، البرازيل، روسيا...) والمتمثلة في:

- المخاطر الناجمة عن التقلبات الفجائية للاستثمارات في الأسواق المالية الدولية وخاصة قصيرة الأجل منها.

- مخاطر التعرض للمضاربات في السوق.

- مخاطر هروب الأموال الوطنية.

- مخاطر دخول الأموال القذرة (غسيل الأموال).

- إضعاف السيطرة على السياسات الوطنية في مجالات السياسة النقدية والمالية.

وهكذا استأثرت القوى العظمى للاستثمار بثروات العالم وأسواقه ساعدها في ذلك ازدهار شبكات الاتصال ونقل المعلومات التي يوفرها التقدم التقني الهائل في ربط الأسواق المالية العالمية مما يسمح للمستثمرين الاستجابة للتطورات التي تحدث في الأسواق بصفة آنية وفورية. وبسبب ظاهرة التضخم النقدي الذي يعتبر من الخصائص الهيكلية للحياة الاقتصادية الحديثة في شتى دول العالم والذي أدى بدوره إلى ارتفاع التكاليف اللازمة للاستثمار إلى جانب حاجة رؤوس الأموال إلى توسيع نشاطاتها وعدم قدرة الادخارات من الجانب الآخر لتلبية حجم الاستثمارات المطلوبة, فليس هناك من سبيل سوى الأسواق المالية للحصول على الأموال اللازمة لمواجهة ذلك الطلب لتنفيذ الاستثمارات, يتم بواسطتها إجراء الصفقات من خلال قيام المستثمرين ببيع حصصهم أو زيادتها بالشراء... وهكذا نشطت السوق المالية كأداة مالية جديدة, وما رافق ذلك من دعوات لإلغاء التنظيمات القانونية والتشريعية التي تقف في سبيل ترويج اقتصاديات السوق, وممارسة العمليات المصرفية والمالية على نطاق واسع ومن ثم التسريع في حركة تدفق رؤوس الأموال عبر الحدود, مما خلق اتساعاً في نطاق التعامل بالأوراق المالية بأنواعها المختلفة، لتتحول أجزاء من حجم رؤوس الأموال المتداولة إلى المضاربة عالمياً في أسواق العملات والبورصات والأوراق المالية والأسهم والسندات والبيوع المكشوفة؛ الأمر الذي جعل التعامل في الأسواق المالية الدولية يتطلب المراجعة المستمرة للمفاهيم والآثار لا بل والستراتيجيات المتبعة فغالباً ما يتم التعامل في هذه الأسواق ضمن عملية مقصودة تحركها القوى الرأسمالية لتحقيق مصالحها بما في ذلك تحرير التجارة وفتح الأسواق الدولية أمام الانتقال الحر للسلع والخدمات وذلك عن طريق اللاعبين الأساسيين في هذه الأسواق الدولية التي تقود عمليات الاستثمار وإجراءات البيوع والسمسرة والمضاربات المالية المتمثلة في:

أولاً. * الشركات الكبرى عبر الوطنية.

ثانياً. * عمليات غسيل العملة (غسيل الأموال).

أولاً: دور الشركات الكبرى عبر الوطنية. على أثر الازدهار الاقتصادي في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية برزت ظاهرة انتشار ما يسمى بالشركات متعددة الجنسية أو الشركات عبر الوطنية (أغلب هذه الشركات أمريكي، أو أوربي، ياباني) امتدت نشاطاتها إلى أنحاء مختلفة من العالم وأقامت لها فروع وشركات تابعة في الدول المضيفة بحثاً عن فرص أوسع للعمل حتى أضحت تمثل في الوقت الحاضر أهم عوامل تطور النظام الاقتصادي الدولي؛ نظراً لما تتميز به من قدرات واسعة تدفعها للكشف عن فرص الاستثمار واستغلالها وتوسيع نشاطاتها, حتى تجاوز حجم المبيعات السنوية لبعض هذه الشركات مثل شركة (2) جنرال موتورز مثلاً حجم الناتج القومي الإجمالي لكل من سويسرا + الباكستان + جنوب أفريقيا... ومبيعات شركة شل تجاوزت حجم الناتج القومي الإجمالي لكل من إيران + فنزويلا + تركيا... علماً بأن هذه الأرقام تعود إلى ما يزيد على عشر سنوات مضت. أي إن أية مقارنة مشابهة تجريها بأرقام اليوم سوف تعطينا تقديرات أضخم بكثير مما أشرنا إليه, سيما وأن هذه الشركات تمارس عملها حرة وليس هناك من حدود لسيادتها الإنتاجية والتوزيعية والتبادلية والتسويقية تساعدها في ذلك شبكة الاتصالات والمعلومات المتطورة والتي أعطتها قوة تكنولوجية وقدرة اقتصادية هائلة؛ الأمر الذي ينطوي على المزيد من هيمنة رأس المال وما يتبعها من سيطرة وقدرة على التلاعب وإعلاء الربح كحافز أساسي من خلال سعيها إلى:

- العمل على خلق بيئة نقدية ومالية تتفق مع الاقتصاد الرأسمالي العالمي ومنع أية قيود مؤسسية أو قانونية أو إجرائية مفروضة على الأسعار المحلية والعالمية تحرف آلية السوق عن أداء دورها في مجالات التمويل والإنتاج والتجارة والاستهلاك.

- تشجيع الاندماج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي من خلال حرية انتقال رؤوس الأموال والتجارة الدولية.

- دعم السوق العالمية الحرة والترويج لها حيث يكون الفاعل الأكبر وبأقوى صورة الشركات متعددة الجنسية العملاقة واللاعبون الكبار في أسواق المال الدولية. من هنا يتضح فن اللعبة في الأسواق المالية الدولية من خلال هذه الشركات وعلى الشكل الآتي:

1. تصاعد اتجاهات وحركات رؤوس الأموال الغربية والشركات من هذا النوع بمساعدة شبكة الاتصالات والمعلومات, يوضح مصادر القوة الهائلة التي تتيح للاحتكارات العملاقة اختراق الأسواق العالمية بما فيها أسواق الأوراق المالية عن طريق تحركات وأنشطة وتفاعلات لزيادة قدرتها على المناورة في التعامل بهذه الأسواق باتباع أسلوب تشجيع المضاربة في البورصات على الأسهم والسندات من أجل تشغيل الكتل المالية الهائلة المتحركة من الأموال ذات الأصول المصرفية والتي تفوق في قيمتها مجموع قيمة التجارة العالمية بما لا يقل عن ثلاثين مرة (من السلع والخدمات المنظورة وغير المنظورة) وهذا يعني أنه إذا كان مجموع قيمة التجارة السلعية على مستوى العالم هو ثلاثة تريليون دولار (كما بينا) فأن حجم الاستثمارات المطروحة في مجال البورصات والأسهم والسندات، وفي النقود الإلكترونية أو بطاقات الائتمان التي يتعاملون بها في تلك الأسواق لا يقل عن (100) تريليون دولار والتي تكون بدورها بعيدة عن سيطرة أغنى البنوك المركزية في العالم... (3).

2- إن تحركات وأنشطة الاحتكارات التجارية والصناعية والمعلوماتية والإعلامية الغربية ذات القدرات المفزعة كانت تتم في اتجاه محاولة تجاوز أو عبور الحدود وتطال السيادة الوطنية(4) للدول والمجتمعات وفيما يعرف بـ(Transborder trends) وقد كان مجال تلك الأنشطة والتحركات ينطلق من إقامة فروع للشركات العملاقة المتعددة الجنسيات لممارسة مثل تلك الأعمال وبالطريقة التي تمليها هذه الشركات, لتسهيل مهمات تحركات القوى الأعظم للهيمنة على اقتصاديات العالم عن طريق الشركات الكبرى كأحد الأساليب المهمة للسيطرة على تدفقات رؤوس الأموال والاستثمارات, والتحكم في مسارات أسواق البورصة في العالم بما فيها أسواق الأسهم والسندات؛ إذ إنها والحالة هذه تعتبر المستفيد من هذه الأسواق وخاصة ما يتعلق منها برؤوس الأموال المستثمرة بالعمليات المالية التي تعكسها آلية العمل في أسواق المال الدولية والتي تتجلى بأقوى صورة في الشركات عابرة الجنسيات العملاقة واللاعبين في الأسواق المالية الدولية.

ثانياً: دور عمليات غسل العملة (غسل الأموال).

غسيل الأموال يعني القيام بعملية استثمار عملة محصلة بشكل غير قانوني من قبل طرف ثالث لطمس هوية مصدرها, علماً بأن مصدر هذه الأموال هو فعل إجرامي... ويتم استغلال هذه الأموال في مجالات قبول الودائع، والحوالات المصرفية، إصدار وسائل الدفع المصرفية، الضمانات والالتزامات المالية، الاتجار لحساب الغير أو للحساب الخاص، التحويل الخارجي، السمسرة النقدية، إدارة المحفظة النقدية، امتلاك وإدارة السندات المالية وغيرها من الأنشطة المصرفية. وتشير البيانات الأولية إلى أن هناك (-,9) تريليون دولار أمريكي من إنتاج العالم ينفق في ما يعرف بـ"اقتصاد الظل" أو الصفقات التي لا تخضع للضرائب ولا تسجل في الدفاتر الرسمية والتي تضم الدخل القانوني غير المسجل للصفقات المدفوعة نقداً من جهة الدخل غير القانوني لنشاطات التهريب والمخدرات وغيرها. ويتم غسيل الأموال على ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: توظيف الأموال غير المشروعة على شكل إيداعات بالبنوك والمؤسسات المالية أو شراء الأسهم والسندات.

المرحلة الثانية: إخفاء المصدر الحقيقي للأموال عن طريق أجراء سلسلة من المعاملات المالية.

المرحلة الثالثة: إعادة وضع الأموال غير المشروعة بعد غسلها.

هذا وتعتبر أسواق المال الدولية من أهم المجالات التي تمكن لهذا النوع من الأموال ممارسة نشاطها حيث تصعب متابعتها ومراقبتها أو حتى محاصرتها في هذه السوق نظراً لاندماجها في شبكة الأنشطة المالية والمصرفية التقليدية ويزداد الأمر صعوبة بالنسبة للمدفوعات الإلكترونية المجفرة (بطاقات الائتمان الذكية) وكذلك ما يتعلق بأنظمة الدفع عبر الانترنيت, كما أن غاسلي الأموال لا يهتمون بالجدوى الاقتصادية للاستثمار بقدر اهتمامهم بالتوظيف الذي يسمح بإعادة أو استمرارية تدوير الأموال, وهو ما يشكل خطراً على مناخ الاستثمار وخاصة في الأسواق المالية المتمثلة في أسواق الأوراق المالية من الأسهم والسندات إذ إن حركة الأموال المطلوب غسلها دون مراعاة الربحية ضمن حيز هذه الأسواق سوف يؤدي إلى إرباك السوق وترويج عملية المضاربات ما بين المتعاملين في السوق وخلق حالة من المنافسة غير المتكافئة مع المستثمرين حيث أن عملية غسل الأموال لضخامة مبالغها تؤثر على أسعار الفائدة وأسعار الصرف وما يعكسه ذلك من تباين سريع في أسعار الأسهم والسندات وتبدلاتها وبالتالي الوقوع في مطب الخسارات أو الانسحاب من السوق أو إفلاس بعض المستثمرين؛ نظراً للحجم الكبير الذي تحتله الأموال المغسولة في الأسواق المالية الدولية, سيما وأن هناك عصابات وشبكات ومنظمات دولية ذات إمكانيات هائلة متخصصة في عمليات خلق الأموال القذرة, وتبييضها- غسلها- بفضل العولمة المالية عن طريق انتقال الأشخاص والتحويلات المصرفية وانتقال رؤوس الأموال... وتقدر منظمة الأمم المتحدة الأرباح المتولدة عن الجريمة المنظمة بحدود تريليون دولار أمريكي سنوياً, ويعاد غسل خمس هذا المبلغ الضخم في الاقتصاد العالمي أي حوالي (200) مليار دولار سنوياً. ومن أبرز عمليات التعامل هذه ما يحصل في مجال الأسواق المالية والمؤسسات المالية التي تمارس الحسابات السرية المالية والمصرفية حيث يتم غسل الأموال وتبييضها عبر وسائل الدخول في عمليات شراء الأسهم والسندات (سلسلة من عمليات البيع والشراء) وما تعكسه مثل هذه العمليات من آثار سلبية على عمليات التداول والتعامل في تلك الأسواق. ويزداد الأمر خطورة إذا ما علمنا بأن شبكات غسيل الأموال القذرة توظف عدداً كبيراً من المستشارين القانونيين الاقتصاديين والماليين والسماسرة لإدارة ومتابعة عمليات التعامل وخاصة من خلال المؤسسات المالية والبنوك  (Off sure) التي تقوم بإصدار فواتير وشهادات استخدام نهائي مزورة لإخفاء مصدر هذه الأموال, وما يتبعه من إرباك للأسواق المالية الدولية نتيجة لحصول التغيرات المفاجئة والسريعة في أسعار الأسهم والسندات وأقيام المبادلات بشكل عام. تلك هي حال أسواق المال الدولية وما تعانيه عمليات الاستثمار فيها من حالات المنافسة غير المتكافئة والمضاربات والتلاعب مما يجعلها تحت وطأة تحركات الكتل المالية المفزعة وتدفقات رؤوس الأموال وتنامي قدرة الفاعلين الأقوى على صعيد رأس المال العالمي, لتشكل إمبراطورية الرأسمال النقدي المستقل عن الرأسمال الصناعي والبضاعي (5) وهكذا يتم الاستئثار بموارد الأسواق المالية الدولية ومردوداتها من خلال عمليات الاستثمار والمضاربة في تلك الأسواق.

  

المصادر:

1. جريدة فرنسية  -Claude Pottie: Lemond Nov. 1997

2. د. حسن حنفي، د. صادق جلال العظم: ما العولمة ص151.

3. د. سمير أمين: في مواجهة أزمة عصرنا، بيروت: مؤسسة الانتشار العربي، ص96، 1997.

4. Jan A.scholte ,, Global Capitalism and the state international affairs vol 73 No3 pp:432- 433 July 1997.

5. د. محمد عابد الجابري- العولمة والهوية الثقافية، صحيفة السفير اللبنانية 21/3/1997.

الصفحة الرئيسية | نشاطات المركز | مقالات | عن المركز | بحوث مستقبلية | إصدارات المركز | الهيئة الإستشارية | منار المستقبل | إتصل بنا

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

 جميع الحقوق محفوظة لمركز المستقبل للدراسات والبحوث / 1427هـ / 2006م

info@mcsr.net