الإمامة والسياسة عند الشيعة

                                                                         حكمت البخاتي

1. الإمامة محتوى الرفض واندماج السياسة.

يقول الاشعري في كتابه مقالات الإسلاميين (أول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين بعد نبيهم محمد (ص)اختلافهم في الإمامة(1)) وهو ما يعنيه بخلافة الرسول (ص) وهو اختلاف تفرعت عليه خلافات وتبنته مقالات وكان للشيعة نصيب وافر ومهم في هذا الصدد فيما ذهبت إليه من آراء وتمسكت به من مقولات وأصبحت الإمامة محور الاختلاف وذريعة الخلاف بعد أن تأصل دور السياسة في مجال الإمامة وأمست -أي الإمامة- مبرره الديني وحامله العقدي وعنه انبثقت قواعد الفقه السياسي في الإسلام وعلى قواعده تشكل تاريخ السياسة الحافل بالصراعات في حياة المسلمين. وفي ابرز مفاصل هذا التاريخ انضوى التشيع تحت لواء المعارضة وأسلوب  التقية طوراً وتحت إعلان المقاومة وأسلوب الثورة طوراً آخر وشكلت الإمامة منطلقة العقدي في اتجاه المعارضة وحاضنه الأيديولوجي في اتجاه الثورة. وكانت الإمامة في أمرها ومحتوى العقيدة منها مصدر لرفض كل سلطة بغير النص وقد قامت سلطة الإسلام وفي كل أدوار تاريخه على عنصر الغلبة وتعطيل الشورى وكان هذا ما يدفع بالرفض إلى أقصى غاية له. يتحدث الاشعري عمن وصفهم بالرافضة من الشيعة وسبب وصفهم بذلك فيقول (وإنما سمو رافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر... وأن الإمامة لا تكون إلا بالنص والتوقيف وأنها قرابة في رأيهم. (2)) وبالنص وحجته والتوقيف وعدم جواز تجاوزه صارت الإمامة أصلاً من أصول الدين عند الشيعة. واجمع المسلمون على وجوب الإمامة شرعاً إلا من شذ من الخوارج وهم فريق صغير وأبو بكر الأصم من المعتزلة اعتبرها سائغة فقط.

وبما أن الإمامة هي موضوعة السياسة في الإسلام وحاضنة عقدية للفكر السياسي منه كان مذهب التشيع ألصق فرق الإسلام بالسياسة والأكثر انشغالاً والأقوى اندماجاً بفصول السياسة من وجهته الدينية وأصوله العقدية إذ الإمامة عند الشيعة هي (خلافة الله عز وجل وخلافة الرسول(3)) وبذلك تترسخ جذور السياسة في الدين عند الشيعة باعتبار أن الإمامة المنصوص عليها من الله تعالى هي موضوعة السياسة تاريخياً في الإسلام. بينما تكون الإمامة في مذاهب السنة (موضوعة لخلافة النبوة(4)).

إن عدم تأسس الخلافة على مفهوم النص أو الوصية في مذاهب السنة دفعت بالكاتب علي عبد الرازق بعد أن فصل الرسالة عن الملك، والدولة عن الدين، إلى القول بأن (الخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية ولا شأن للدين بها(5)). وبعد استدلاله بقول صريح لأبي بكر على أن خلافته مجرد خلافة للرسول وليست خلافة عن الله تعالى إذ يقول أبو بكر (لست خليفة الله ولكني خليفة رسول الله(6)). وتعد هذه القضية في نظره أول محاولةِ فصلٍ للدين عن الدولة.

وإذا كان الشيعة يتبنون أصل الإمامة وفق مقولة النص ووجوبه الشرعي ويتأسس على هذا القول في الإمامة أنها خلافة صريحة عن الله تعالى، فالنتيجة العملية وإن كانت على مستوى نظري- عقدي أن (الشيعة صيغة عملية للإسلام كما طرحه النبي (ص) – بلحاظ نبوته وكونه رسولاً يبلغ عن الله تعالى ما أمره- وأهل بيته الطاهرون، وبقية الطوائف الإسلامية صيغ عملية للإسلام كما طرحها أئمتها(7)).

2. الإمامة وشرط العلم والعصمة والبعد السياسي.

وكان من ابرز شواهد هذا الطرح الديني هو اشتراط العلم والعصمة في الإمامة إذ يروي أبو عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (ع) اشتراطه في الإمامة (العلم المكنون بجميع ما تحتاج إليه الأمة من حلالها وحرامها والعلم بكتابها خاصة وعامة...(8)). وعند سؤاله- أي الراوي- عن الحجة بأن الإمام لا يكون إلا عالماً بهذه الاشياء فإن الإمام الصادق (ع) يستدل بقوله (قول الله فيمن أذن لهم بالحكومة وجعلهم أهلها " إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ " فالربانيون هم الأئمة دون الأنبياء الذين يربون الناس بعلمهم وأما الأحبار فهم العلماء دون الربانيين ثم أخيراً قال بِمَا "اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء" ولم يقل بما حملوا منه(9)).

واستحفاظ الكتاب وليس مجرد الحفظ أو الحمل منه هو شرط الإمامة بما هي رئاسة دينية ودنيوية تستند إلى هذا الكتاب الكريم في شرعية وأصل السلطة ونظم الإدارة والحكم في مهمة هذه الرئاسة.

وفائدة تمام العلم بالكتاب وتربية الناس بهذا العلم حتى لا تخطيء الامامةُ العدلَ في الحكم وتُعصم من أن تجور في رئاسة الأمة وهو ما يكفله ويضمنه شرط العصمة في الإمامة في القول والفعل وفي الدور المناط برئاسة الدين وخلافة المسلمين عند الشيعة، يقول الطوسي (إذا ثبت وجوب الإمامة في كل حال وأن الخلق مع كونهم غير معصومين لا يجوز أن يخلوا من رئيس في وقت من الأوقات وأن من شرط الرئيس أن يكون مقطوعاً على عصمته(10)).

إن خلاصة ما استدل به الشيعة على وجوب عصمة الإمام ومن استعراض مجمل أدلتهم الكلامية انه لولا أن يكون الإمام معصوماً عن الخطأ لزم عنه أن الله تعالى يأمر عباده باتباع الخطأ لأن الإمام واجب الاتباع في الشريعة وذلك قبيح عقلاً. وتشهد المحاججة الشيعية في العصمة على قوة تمسك المذهب بهذا المفهوم إلى حد اعتباره من ضروريات عقيدته ويحمل هذا الموقف الذي يقرن الإمامة بالعصمة في طياته بعداً سياسياً ينبني على دمج واضح بين الإمامة والسياسة عند الشيعة ويشكل قاعدة أساسية للفكر السياسي في عقيدة التشيع. وهو مطلب اجتماعي ضمني تتقدم به جماهير الناس من المسلمين الشيعة على أثر تجارب في الحكم في طول تاريخ الإسلام وعرضه فشلت أن تعصم الخليفة أو الملك عن ظلم الأمة والعدوان على حقوق الناس. فالعصمة في المثال الشيعي وكما يستشف من تعريفها عند متكلمي الشيعة وفقهائهم، جامعة لكل عدل مانعة عن كل ظلم. وبالتالي فأن العصمة هي (ثمرة قلق من تحول السلطة إلى أداة قهر وظلم للعباد(11)). وهي قد تحولت بالفعل إلى هذه الأداة في التجربة السياسية الإسلامية، هذا بالإضافة إلى إشكالية السلطة في الفقه الإسلامي وما تفرضه من السمع والطاعة على عامة المسلمين وعدم جواز معصية الإمام الذي يتمتع في هذه السلطة بصلاحيات تتحول إلى امتيازات بفعل غياب مبدأ العصمة في سلوك السلطة وتؤول إلى استبداد لا تمنعه إلا العصمة وعليه فأن العصمة تمثل الواجهة الدينية والجوهرية بالنسبة للعقيدة الشيعية لطرح سياسي يتناول قضية العدل ويصدر عن أصل الإمامة وهو يعبر عن استجابة مفاهيمية وعلى مستوى عقيدة دينية لطبيعة مطالب اجتماعية وغايات إنسانية تدور حول سلطة الحق وقيم العدل. وبهذه الاستجابة تماهت عقيدة الإمامة في حركة الرفض القائمة في المجتمع الإسلامي ومنذ عصوره المبكرة لسياسة الجور وأنظمة الظلم وعلى هذا تأسس نزوع السياسة في هذه العقيدة.

ونتيجة رفض اجتماعي في مصدره وسياسي في مطلبه عرفت هذه العقيدة بعقيدة الرفض أو ما تسالمت عليه هيمنة الفقه الرسمي- السلطوي حول مسمى الرافضة.


 


(1) مقالات الاسلاميين- أبو الحسن الاشعري، ص39.

(2) المصدر نفسه، 87.

(3) عيون أخبار الرضا أبو جعفر الصدوق، ص196، ج1.

(4) الاحكام السلطانية والولايات الدينية أبو الحسن الماوردي، ص15.

(5) الاسلام وأصول الحكم علي عبد الرازق، ص201.

(6) المصدر نفسه، 193.

(7)  الشيعة والتشيع، آية الله محمد مهدي الشيرازي، ص25.

(8) تفسير العياشي محمد بن مسعود العياشي، ص322، ج1.

(9) المصدر نفسه، 323، ج1.

(10) الغيبة، أبو جعفر الطوسي، ص3.

(11) نظرية السلطة في الفقه الشيعي، توفيق السيف، ص59.

 

الصفحة الرئيسية | نشاطات المركز | مقالات | عن المركز | بحوث مستقبلية | إصدارات المركز | الهيئة الإستشارية | منار المستقبل | إتصل بنا

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

 جميع الحقوق محفوظة لمركز المستقبل للدراسات والبحوث / 1426هـ / 2005م

info@mcsr.net