التركيبة المذهبية في العراق

                                                                             د. خليل الربيعي

يعد العراق من الدول غير المتجانسة مذهبياً- على الأقل من الناحية الإسلامية إذ يتكون من طائفتين هما الشيعة والسنة. وتذهب أغلب الإحصاءات ويؤيدها الواقع أن الشيعة هم أكثرية المسلمين في العراق، حتى لو انضم الأكراد السنة إلى نسبة السنة العرب.

وان شيعة العراق خليط من قوميات متعددة هي العرب وهم الغالبية العظمى والتركمان والأكراد الفيلية والشبك.

وامتازت العلاقة بين الجانبين بمعادلة تكاد تكون غربية مفادها هيمنة الأقلية على الأكثرية- على طول تاريخ الإسلام في هذا البلد- وأن هذه الهيمنة رافقتها عمليات عنف وتحجيم لدور الشيعة السياسي، ومحاصرة للنتاج الثقافي والديني، وأحياناً الاعتداء على المقدسات الإسلامية لاسيما ضريح الإمام الحسين (ع) باعتباره عنوان الرفض لهذه الهيمنة أولاً، وصيحة التصحيح الأوضاع بما يحقق العدل والتوازن الاجتماعي ثانياً. وليس غريباً أن تتعرض الشعائر الحسينية للمنع من قبل الأنظمة السياسية التي حكمت العراق باسم الدولة الإسلامية أو الدولة القومية الحديثة. كما أنه أيضاً من غير المستغرب أن تنسج الأساطير والأكاذيب حول معتقدات الشيعة من كتاب عراقيين. وزدادت هذه الاتهامات بعد نجاح الثورة الإيرانية، إذ تحمل الشيعة أوزار ذلك النجاح قتلاً وتشريداً ونفياً وإسقاط للجنسية، أصبحت المقابر الجماعية ملاصقاً للشيعة في العراق. وعمل رجال حسبوا على الشيعة زوراً على الدخول في معترك المواجهة الدينية للشيعة بإيحاء من النظام العراقي السابق وكذلك من دول واتجاهات مذهبية في الخارج فألفوا الكتب التي لا هم لها إلا الافتراء والكذب على الشيعة أمثال "الله ثم للتاريخ"، " مذهب أهل البيت في الصحابة" واعتمدوا أسماء مستعارة توحي للقارئ أنهم من الشيعة.

أما على الصعيد الاجتماعي، فقد أخذت العلاقة بين الجانبين اتجاهاً إيجابياً تمثل بالمصاهرة المختلطة مما عمقت من وسائل الاتصال وخففت مما يولده الاحتقان الديني، حتى أن اغلب الباحثين يشيرون إلى عدم وجود طائفية اجتماعية في العراق، خلافاً للطائفية السياسية، وربما ساهم الانحسار الديني عن السياسة- في ظل الدولة العراقية الحديثة- في هذا التوجه.

لكن ملامح الاستقطاب السياسي الطائفي أخذت منحن خطيراً بعد غزوا العراق للكويت، لاسيما بعد تبني النظام- لما أطلق عليه الحملة الإيمانية- بإشارة من بعض القيادات الإسلامية الاخوانية وتحديداً من حسن الترابي. وكان لهذه الحملة مجموعة من الدوافع والأهداف منها تحجيم النشاط الديني الشيعي الذي كان المعارض الأساس لوجود النظام والذي كان بصورة مباشرة وراء الانتفاضة الشعبانية التي كادت أن تسقط النظام. وفي إطار هذه الحملة برز التيار الرسمي الديني في الوسط السني والذي استغلته الأحزاب السنية المحظورة آنذاك عن طريق الجمعيات والنوادي، بل وساهمت بعض الرموز الدينية في هذه الحملة أمثال محسن عبد الحميد وأحمد الكبيسي اللذين ترددا كثيراً على مناطق الشيعة في بابل وكركوك. كما برز التيار الوهابي الذي عمل على ترسيخ مفاهيم العزلة الاجتماعية وإعاد منظومة أبن تيمية الفكرية إلى الواقع- لاسيما مفاهيم الارتداد والرفض والكفر- وأخذ نشاطه يزداد يوماً بعد يوم بدعم من دول معينة، وتحديداً السعودية التي أدركت أن نهوض الشيعة في العراق يشكل عقبة أمام وجودها، حتى ظهرت عناوين بحوث وكتب تحمل هذا النفس منها "وجاء دور المجوس" بعد انتصار الثورة الإيرانية. ومع كل هذه الاحتياطات، فإن سقوط النظام في 2003 كان صدمة للطائفة السنية، إذ فقدت السيطرة على ذهنية الكثير منهم، وعاشوا في حالة ذهول لمدة أكثر من ستة أشهر، بعدها استعادت وعيها، ولكن خسارتها للامتيازات التي تمتعت بها طيلة حكم النظام السابق. بل أن بعض القوى وجدت أن مشروعها قد تهاوى، إذ أن ملامح النظام السياسي الجديد بدأت بالظهور لتؤشر حالة التوازن في المكونات الوطنية- على الصعيد السياسي- وانهمك الشيعة بالتعاون مع الآخرين في بناء نظام تعددي ديمقراطي يقوم على أساس المواطنة والعيش المشترك واحترام حقوق الإنسان، والسماح للكل بالمشاركة في صنع القرار. وأصبحت قضية تبادل الأدوار " بين المعارضة والسلطة" هي التي تحكم العلاقة بين الجانبين، إذ أن السنة حتى الذين انضموا إلى العملية السياسية يعتقدون أن هناك ظلماً وقع عليهم نتيجة الوضع الجديد، في حين لازال الشيعة يؤمنون بأن الوضع الجديد لم يكن بمستوى الطموح، إذ أن الآخرين ظلوا يستغلون الفرص لإيقاع الأذى السياسي بهم. ومما يعكس هذا الأمر أن السنة بمجرد السقوط تداعوا إلى هيئة أطلق عليها هيئة علماء المسلمين ضمت في صفوفها خطباء الجوامع وبعض أساتذة الجامعات ذوي الاختصاص بالشريعة، واختاروا لها أميناً عاماً يجمع بين الصفة العشائرية وبين الدراسة الأكاديمية، وأن كانت نزعة العشائر هي الغالبة عليه عند التعامل مع القضايا الوطنية والسياسية. وإذا أردنا رسم الخارطة السياسية السنية بعد السقوط فيمكن الإشارة إلى وجود تيارات سياسية متناقضة وأحياناً متضاربة تصل إلى حد التكفير والتفسيق، ويمكن الإشارة إلى التيار الإسلامي السني والتيار العلماني السني، ومع هذا التقسيم فإن التيارين معاً يشتركان في سعيهما لاستعادة النفوذ المسلوب. وتوسلوا لتحقيق ذلك بالأسلوب السلمي أي المشاركة في العملية السياسية والدخول في حوارات مع الآخر الشيعي، واستطاعات التجربة أن تصقل خطاب هؤلاء إذ تحولوا من الخطاب الانفعالي المتشنج والذي يعكس حالة التأزم النفسي والسلوكي إلى خطاب الاعتدال والمشاركة، والقبول بالأمر الواقع. وإذا كان التيار العلماني السني يفتقر إلى الأدوات الفعالة للتأثير على عقلية عوام السنة، بسبب كارثية التجربة التي قادها أو ساهم في حركتها طيلة الحكم البعثي السابق، من خلال رموز هذا التيار، وعدم مبدأية بعضهم الذي عكسته حالة الانتقال من هذا الحزب أو ذاك سعياً وراء المكاسب الذاتية والشخصية، فإن التيار الإسلامي السني يمتلك مفردات التأثير، سيما وأنه يتحرك في إطار منظومة فكرية تغذي حالة القطيعة مع الشيعة، وأن كانت هذه المنظومة لا تخفي مثل هذه الرؤية، من خلال اعتماد توصيف تاريخي ساهمت به عقليات السلطة وأدواتها. واتخذت العلاقة مع الشيعة بعد السقوط- الطبيعة التصارعية- وأحياناً تحركت في إطار محاربة الوجود. ومن الواضح أن الهيئات المؤثرة في الوسط السني العراقي توزعت مواقفها من الشيعة على ثلاثة اتجاهات:

الأول: الاتجاه الذي يحاول تحميل الشيعة مسؤولية ما آل أليه وضع العراق، إذ كثيراً ما نجد خطاب هذا التيار خطاباً انفعالياً، يقفز على الحقائق، ويحاول أن يجعل من المذنب بريئاً، ومن المظلوم ظالماً، وتستثمر منظومة الإعلامية مقولات الاحتلال- المقاومة- التحرير- الخيانة- العمالة، وعادة ما تشير في إعلامها وقنواتها التأثيرية إلى المؤامرة الصفوية على الإسلام، لتحشر نفسها في زاوية الاتهام بأنها تمثل الاستبداد والقهر الذي طال الشيعة خلال مدة حكم صدام حسين، عندما تعتقد أن ما جرى ليس إزالة لنظام دكتاتوري مستبد عاث في الأرض فساداً وإنما هو مؤامرة لإبعادهم عن السلطة. ولعل المتابع لخطاب هيئة علماء المسلمين منذ تشكيلها حتى الوقت الحاضر يكشف بوضوح مدى التشنج والاضطراب واللامبالاة بما يجري من أفعال تمس الشيعة بحيث أصبحت ظاهرة للعيان، إلا أن عين الطائفية ظلت غامضة عنها. وتبنى هذا الاتجاه موقفاً رافضاً للاحتلال- وما افرزه- على حد زعمهم- ولكنهم في حقيقة الأمر- ظلوا يتعاملون بطريقة أو بأخرى مع المحتل. والغريب في موقف هذا الاتجاه أنه تدخل كثيراً من أجل إطلاق سراح الرهائن الأجانب وكان مقر الهيئة ملتقى للسفراء ولوفود الأجنبية التي تعمل من أجل إطلاق سراح رهائنهم، وقامت الهيئة بدور بارز وفعال في هذا المجال لاسيما بشخص عبد السلام الكبيسي إيماناً منه بأن ما يقوم بد يدخل في إطار العمل الإنساني الذي ينسجم مع خط الإسلام، غافلاً عن حقيقة العلاقة مع هؤلاء المجرمين والتي بدلاً من أن يكافؤهم على فعلهم هذا، عليه أن يحدد الموقف الشرعي من هذه الأعمال الإرهابية والتي تدخل في باب قطع الطريق والتي هي من الجرائم القليلة التي ورد حدها في القرآن الكريم. وتناسى هذا الاتجاه الذي له خطوط اتصال مع بعض الجهات التي تسمي نفسها "المقاومة الإسلامية الوطنية" ما يجري على أيدي هؤلاء من قتل وتدمير للبنية التحتية العراقية، فلم نسمع منهم إلا بيانات التنديد والشجب وأحياناً المناشدة بأسم الإسلام لوقف هذه الأعمال، انطلاقاً من قناعة رموز هذا الاتجاه بأنهم مسلمين وظلت العلاقة متوترة بين هذا الاتجاه والشيعة- على الأقل في الخطاب الإعلامي- واستغلت الجوامع والمساجد منابر لتحشيد الشباب المتحمس إزاء الشيعة، إذ كثيراً ما استهدف الشيعة ومساجدهم. بل وكثيراً ما كان الشيعة محل استهداف من قبل هؤلاء في المناطق ذات الأكثرية السنية، بل وأن أولى حملات التهجير القسري للعوائل الشيعية بدأت من مناطق هيمنة الهيئة وزعامتها عليها. وظل الإعلام الخاص بهذا الاتجاه يستلهم من التاريخ المزيف ليوصم الشيعة بالخيانة، وترددت في صحف الاعتصام ودار السلام وغيرها عبارات العلقمي، في حين أن التاريخ المعاصر شهد خيانة لاتباع هذا الاتجاه عندما سلمت مناطقهم دون قتال إلى الاحتلال بتوقيع صكوك التنازل والاستسلام. وظل هذا الاتجاه يحمل تنظيمات شيعية محددة (منظمة بدر) مسؤولية الاغتيالات التي تعرض لها بعض السنة في مناطق معينة من العراق، وأخذ وصف الطائفية يلازم أية وزارة يترأسها شيعي حتى وأن اشترك فيها لسنة، حتى لم نعد نسمع من شباب السنة إلاّ بدر عند الاغتيال، في حين أن القضية تكاد تكون معكوسة، إذ بعد سقوط النظام، ومع حالة الذهول التي أصابت قيادات سنية معينة، لم يتعرض أبناء السنة إلى أي مضايقات في أية منطقة من المناطق، ولابد من التأكيد بأن أولى عمليات الاغتيال والتفجيرات طالت مراقد الشيعة وزعمائهم واتباعهم، ولعل منطقة اللطيفية تمثل العنوان الأكثر بشاعة وطائفية في التاريخ المعاصر للعراق، كما أنه لابد من إقرار حقيقة أخرى، أن السنة أحياناً يتعرضون للاغتيال والقتل من قبل أبناء مذهبهم لحسابات سياسية ودينية معينة، ولعل محاولات اغتيال رموز سنية في الدولة وخارجها، بل واغتيال بعضهم أمثال الشيخ أياد الغزي وكوكبة من رفاقه في مناطق الانبار والموصل وحتى في ديالى وبغداد دليلاً على هذا التناحر والصراع البيني السني. وقد ولد هذا الموقف المتذبذب تجاه ما يجري للشيعة من قبل أصحاب هذا الاتجاه إلى ردة فعل شيعية في الأوساط العامة، كشفت عنها أحداث سامراء وما رافقها من تعرض لبعض المساجد السنية إلا دليلاً على الاحتقان الذي يشعر به عوام الشيعة تجاه مواقف السنة مما يتعرضون إليه، مع أيمانهم بأن هذه المساجد هي أوكار لتصدير الجريمة تجاه الشيعة وليست منابر للتآخي والتوحيد ولمواجهة المحتل. ومن الجدير بالذكر أن هذا الاتجاه تعامل مع تيار السيد مقتدى الصدر بإيجابية ودفعه باتجاه المواجهة المحتل، ودعمه بالسلاح والموؤن، ولكن بمجرد إعلان زعيم هذا التيار أنه مع المقاومة السلمية وأنه لن ينجر إلى مخطط المحتل في المواجهة معه، حتى تنكر له وتحول هذا التيار من وصف الوطنية إلى تيار شأنه باقي التيارات والاتجاهات الشيعية الأخرى موسوماً بالتبعية والصفوية والفرس. ويتخوف هذا التيار من أي تقارب شيعي عراقي مع إيران، بل وحتى من التقارب العراقي- الإيراني ظناً منه أن هذا التقارب يصب في اتجاه مغاير لما يريده، من جعل العراق قلعة سنية. وظل أيضاً يركز على عروبة العراق، مع أن المنطق يفترض أن لا ينجر هذا التيار إلى هذا النزاع حول الهوية العراقية- العربية أم الإسلامية. طالما أن منطقة الذي ينطلق منه هو منطق إسلامي. كما أن هذا الاتجاه ظل ولا يزال يعاني من الازدواجية في المواقف، فهو يمد يده إلى كل الأنظمة العربية التي دعمت أو ساندت الاحتلال، بل وكانت أراضيها منطلقاً لجنود الاحتلال، في حين أنه يتعامل مع إيران من منطق التآمر والخيانة، فمؤتمر القاهرة للمصالحة الوطنية عقد باعتراف أقطاب من هذا التيار بدعم أمريكي وبمباركة من هذه الأنظمة، ولكن اشتركت فيه الهيئة وأقطابها، أو لم يكن تفسيراً لمثل هذه المواقف.

الثاني: وهو المشارك في العملية السياسية والمتمثل بجبهة التوافق والتي تضم ثلاثة تيارات هي الحزب الإسلامي العرقي ومؤتمر أهل العراق وجبهة الحوار، وهؤلاء يوحدهم العامل السياسي ولكن مواقفهم من الشيعة تبدو متباينة، إذ أن أقربهم إلى الاعتدال هو الحزب الإسلامي العراقي، لاسيما قيادات الخارج منه، إذ يحملون نفساً يتعالى عن الطائفية، ولكن وبحكم التعامل مع لظروف الوطنية ينساقون بضغط وراء مطالب قوى أخرى، أو وراء ضغط الشارع السني، الذي يريد العودة إلى الامتيازات السابقة. أما تيارات الجبهة الأخرى، فهي أكثر عدائية في تصريحاتها تجاه الشيعة من الحزب الإسلامي وأن كانت بعد هذه التصريحات تصب في إطار الضغط السياسي للحصول على المكاسب والمناصب في التشكيلة الحكومية. ومع هذا، فإن هذا الاتجاه يتبنى مواقف قد تدفع باتجاه خلق أجواء غير طبيعية في العلاقة مع الشيعة، منها تصريحات بعض مسؤوليه بإيجابية نظام صدام حسين، وأنه ليس سيئاً على طول الخط، وكذلك موقف مع اجتثاث البعث وفيدرالية الأقاليم. كما أن هذا الاتجاه يتعاطى بوجهين- على الأقل بالنسبة لتيار خلف العليان- إذ تشير تسريبات صحيفة إلى تورط أقرباءه بالعمليات الإرهابية الموجهة ضد الشيعة في بعض المناطق في بغداد. كما أن وسائل إعلامية أشارت إلى أن عمليات خطف لمدنيين عراقيين تمت على مقربة من مقرات هذه الجبهة أو أطرافها، لاسيما مراسلي قناة "السومرية" وغيرهم. أن هذا الاتجاه- لا يختلف عن سابقه من ناحية النظرة الدينية إلى الشيعة، إذ نجد أوصاف المجوس والصفويين والعلقميين هي الأخرى تتردد في صحافته، ولكن الفارق بينهما هو أن هذه تحصل عن الأزمات السياسية، في حين أنها دائمة في خطاب الاتجاه الأول. وأيضاً يصر هذا الاتجاه على التركيز على عروبة العراق- مقابل الانتماء الديني لهذا البلد، وكثيراً ما نسمع تخوفهم من فيدرالية الأقاليم ظناً منهم أن ذلك سوف يؤدي إلى تهميش دورهم السياسي أو ربما يقف عقبة أمام مشروعهم السياسي، الذي يقضي بالعودة إلى حالة ما قبل السقوط. ويتمتع هذا الاتجاه بعلاقات واسعة مع أطراف إقليمية ودولية، تلعب دوراً في رسم توجهاته السياسية وعلاقاته مع الشيعة، إذ أن لكل دولة اجندتها الخاصة في العراق، ولكنها تشترك في قضية أساسية هي محاربة الشيعة وعدم إخراج العراق من محيطه السني، وكثيراً ما نسمع تصريحات من قبل المسؤولين لاسيما السعوديين والأردنيين والمصريين تصب في هذا التوجه. وبدلاً أن نسمع الشجب والادانه من قبل هذا الاتجاه نجدهم يسارعون إلى إعلان التأييد لتلك التصريحات. إذ من الغريب حقاً أن يتضامن الحزب الإسلامي العراقي مع تصريحات سعود الفيصل والتي أعلن فيها عن خطة أمريكية مباشرة أم غير مباشرة لتسليم العراق إلى إيران. كما أنهم وقفوا بشدة ضد دعوة السيد عبد العزيز الحكيم إيران للدخول في مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة حول العراق مؤكدين أن هذا تدخلاً في الشؤون الداخلية للعراق، وأنه سوف يكون على حساب مصالح السنة في العراق، في حين أن تصريحات الملك الأردني حول الهلال الشيعي لاقت قبولاً نفسياً وسياسياً لدى هذا الاتجاه، ولم تكن تدخل في إطار التدخل في الشؤون الداخلية للعراق. يضاف إلى كل هذا، أن هذا الاتجاه ظل صامتاً إزاء الجرائم البشعة التي ارتكبت بحق الشيعة من قبل اتباع الزرقاوي والذي كان لانصار هذا الاتجاه دوراً مهماً في عمليات جمع المعلومات والاستطلاع والرصد أحياناً المباشرة بهذه الجرائم. وظل هذا الاتجاه يردد بين الحين والآخر، أن الزرقاوي شخصية وهمية أريد منها أن تكون جسراً لتمرير لمؤامرة الطائفية في العراق، حتى سقط في أيديهم، وأيدي الآخرين عندما ظهر في شريطه المصور يتوعد الشيعة (الرافضة) والمحتلين، مع أن كل جرائمه توجهت إلى الشيعة ولم يقم بأية عملية نوعية ضد الأمريكان وغيرهم. وظلت أدبياتهم السياسية تتحدث عن وجود مقاومة وطنية، وضرورة الاعتراف بشرعيتها كما أن إعلامهم كثيراً ما يصور عمليات وزارة الداخلية على أنها طائفية موجهة إلى السنة دون غيرهم، متناسين أنهم الحاضن للإرهاب وأن مناطقهم هي مصانع لتوليد عمليات الإرهاب، إذ لم تحصل في مناطق الشيعة مثل هذه العمليات، وإنما مناطق الشيعة مسرحاً لتلقي ما يتفتق عنه عقل السني من تدمير وخراب. ولم نسمع من هذا الاتجاه أدانه واضحة وصريحة للتشكيلات غير الشرعية من السنة والتي هدفها مقاتلة الشيعة أولاً. أمثال فيلق عمر الذي مارس وباعترافه عمليات قتل وخطف وسلب على الهوية في مناطق متعددة من العراق. بل وان هذه الاتجاه يحاول قلب الحقائق، فما جرى للشيعة في مناطق سنية على طريق بغداد- كربلاء- نجف، يمثل وصمة عار في جبين كل من يناصر هذا الخط، إذ تعرض النساء والأطفال والشيوخ والشباب إلى أساليب قذرة من التعامل لعل أحد منها اغتصاب النساء وقطع الرؤوس، وبدلاً أن يستنكر هذا الاتجاه ما يجري، تظهر علينا إحدى صحفهم بتحقيق مشبوه وعلى صفحة كاملة لتصل إلى نتيجة أنه لا وجود لما يجري هناك، وأن الشيعة والأكراد متجاورين ومتحابين في هذه المنطقة، ولتعطي انطباعاً بأن الوطنية قد غابت عن عقول أصحاب هذا التحقيق، ولتجافي الموضوعية ولتتخلى عن أخلاقية الصحافة، ولتبرر ما اعتبره الله تعالى جريمة بحق الإنسانية جمعاء. وربما يمكن تبرير هذه المواقف المتشنجة من قبل هذا الاتجاه بالتركيبة التنظيمية والبشرية له. إذ أنه حديث النشأة تنظيمياً، وأن كانت بعض أطرافه كالحزب الإسلامي العراقي تمتد في وجودها إلى ستينيات القرن الماضي، ولكن بعد إعلان قادة الحزب حله في عهد البعث الثاني، ظلوا يتحركون في ظل منظمات خيرية معينة، ولذا عند عودته إلى العمل بصورة علنية ضم بين صفوفه عدداً كبيراً ممن كانوا يعملون في ظل النظام السابق، إذ لم تعد قضية الانتماء إلى البعث تمثل رفضاً بالنسبة لهم، ولذا فإن أغلبهم قد تشرب بالثقافة الطائفية أو الممارسات الطائفية طيلة وجوده في مؤسسات النظام. ويمكن أيضاً أن نضيف مبرراً أخراً هو أن الحزب الإسلامي العراقي تعرض إلى حملة ظالمة من قبل جماعة الأخوان المسلمين والأحزاب المنضوية تحتها بسبب مشاركته بالعملية السياسية، انطلاقاً من مفاهيم لم تجد لها تأصيلاً شرعياً صحيحاً، بل أن الفهم الإسلامي للموقف يسير باتجاه الرفض لمقاطعة هذه العملية، فضلاً عن أن التجارب المشابهة شهدت مباركة من هذه الجماعة كما هو الحال في فلسطين. هذا الأمر دفع الحزب الإسلامي العراقي إلى التشدد في بعض المواقف لكي لا يفقد جمهوره الذي وجد فيه شعارات مقاومة المحتل وتحرير العراق والجهاد غطاءً وراء حركة الرفض لما افرزه سقوط النظام السابق من وضع لا يصب في صالح هيمنة طائفة أو فئة معينة على أخرى.

الثالث: تيار التكفير واستعمال القوة المسلحة ضد الشيعة. وإذا كانت جذور هذا التيار موجودة في العراق قبل السقوط والتي اتخذت منحنين في ذلك أحدهما التيار الوهابي الذي تغذى في العراق بفعل غض الطرف عن نشاطه من قبل النظام السابق، ودعم السعودية المادي والإعلامي والذي اخذ ينشط في الوسط الشيعي مستغلاً شعارات حق يراد منها باطل وكذلك مستغلاً حاجة بعض الأفراد من الشيعة للجانب المادي. وهذا التيار رموزه من العراق وفكره مستورد من السعودية، وثانيهما التيار التكفيري الذي وجد في المنطقة الشمالية قبل السقوط وتحديداً في المناطق الجبلية الحدودية بين العراق وإيران، والذي أخذ يتزايد نشاطه وتتسع مساحة حركته بعد إسقاط حكومة طالبان عام 2001، إذ اغلب هذه العناصر قد توجهت عبر إيران إلى العراق بوساطة من قلب الدين حكمتيار الذي كان على علاقة طيبة مع رموز في القيادة الإيرانية. ومع أن هذا الاتجاه تعرض إلى ضربات من الأكراد قبل سقوط النظام بعد أن عمدوا إلى التعرض للمواطنين ولمعتقدات المسلمين لاسيما في طويلة وقصبة بياره، وكذلك ما تعرضوا له من قصف أمريكي في بداية الحملة العسكرية على العراق ومقتل زعماء لهذا التيار في هذه المواجهات أمثال هادي دغلس واخرين، إلا أنه سرعان ما أخذ بالتوسع في العراق بعد السقوط لأسباب كثيرة منها رغبة الأمريكان لمواجهة هذا التيار في العراق وعدم نقل المعركة إلى الولايات المتحدة أو أي موقع يكون فيه مصالح لها في العالم، وكذلك عدم وجود سلطة عراقية مركزية تستطيع الإمساك بالحدود مع دول الجوار، وتسهيل هذه الدول دخول عناصر هذا التيار إلى العراق تحت دعاوى السعي لمواجهة أمريكا، إذ اعتقدوا بأن العراق أفضل ساحة لتصفية الحسابات مع أمريكا، وهذا ما يفسر دعم الأنظمة العلمانية أمثال سورية وبعض دول خليج لهذا التيار. كما أن دولاً أخرى دعمت هذا التيار عبر ما يسمى بالعلماء فيها والتي أعلنوا في عدد من الفتاوى وجوب التوجه للعراق لمقاتلة الأمريكان، ادراكاً منهم أن هذه المقاتلة تصب في صالح مشروع محاربة الشيعة ومنع بروزهم كقوة مؤثرة في المنطقة، لما لهذا البروز من تأثير على مجمل أوضاع المنطقة. ولعبت السعودية دوراً فاعلاً في إطار دعم لهذا التيار من خلال فتح الحدود مع العراق وغض النظر عن عمليات التسلل عبر حدودها وتهريب الأسلحة، وازداد هذا الدور بعد أن تعرضت هذه الدولة إلى هجمات من قبل اتباع هذا التيار ودخولها في صراع أمني، ظناً منها أن هذا الأسلوب سيدفع باتجاه التخفيف من الضغط عليها. وانسجاماً مع منظومته الفكرية التي تقوم على الإقصاء والإلغاء الفكري وأحياناً الوجودي للآخر عمل على تأسيس عدد من المنظمات والميليشيات المسلحة وأهمها قاعدة التوحيد والجهاد في بلاد الرافدين وجيش أنصار السنة الذي في حقيقته منظمة أنصار الإسلام المتطرفة الكردية، والجيش الإسلامي السري وغيرها من المنظمات. وأعلنت هذه المنظمات أن مهمتها الأولى محاربة الروافض (الشيعة)، لتنقل أهدافها من البعد الديني الخارجي (الصراع ضد الصهيونية والصليبية) كما تزعم إلى صراع ديني بيني مع الشيعة في العراق، وأعلنت أنها تريدها حرباً طائفية لمحو الوجود الشيعي، دون أن تعتبر بالتاريخ ودون أن تدرك أن الخط الرسالي الإسلامي قد تكفل الله بحفظه، وأن محاولات أسلافهم لتحقيق هذا الهدف، انقلبت وبالاً عليهم. وإذا كانت الاتجاهات الأخرى تدرك هذه الحقيقة، فأن ابتعاد قادة هذا التيار عن الواقع العراقي وعوامل دفع الحركة الاجتماعية وأساليب تفعيل التواصل المذهبي، جعلهم يتمادون في التصريح بأهدافهم. وينطلق هذا التيار في مواجهة الشيعة من خلال الدعم السني له في بعض المناطق، حتى غدت تلك المناطق أوكاراً للتخطيط والتنفيذ تجاه أهدافاً شيعية في مناطق أخرى، ولعل جرائم الجيش الإسلامي السري في المدائن ووحشية اتباع هذا الاتجاه في اللطيفية، وامتدادات أعماله الإرهابية إلى مناطق ديالى والمحاويل وجرف الصخر. والغريب في الأمر أن هذا الاتجاه فتح النار على كل الوجودات الإسلامية في هذا البلد، فالسنة ضالين والشيعة مشركين، ولكن نجد أقطاب وزعماء السنة يغضون الطرف عن جرائمه اتجاه الشيعة، بل أن الزرقاوي وصف الضاري نتيجة علاقته مع أحد رجالات الشيعة (الخالصي) بأنه رأس النفاق، ومع هذا، فأنهم جهلاً منهم أو تعمداً كثيراً ما يصرحون أن هذا الشخص لا وجود له في العراق، بل والأغرب من هذا أن تجد أكثر من عشرة منظمات تعمل في الفلوجة أصدرت بياناً قالت فيه أن هذا الشخص قتل في القصف الأمريكي على مناطق تواجد أنصار الإسلام في الشمال، مع القناعة التامة بأن هذه المنظمات تدرك تمام الإدراك أنه موجود في الفلوجة، حقداً منها على ما يجري في العراق وانتقاماً من الشيعة. وتداخل هذا الاتجاه مع التصور البعثي الذي ينطلق من استراتيجية محاربة المحتل- كما يزعم- في حين أن الحقيقة تشير إلى أنه يهدف إلى تعطيل بناء مؤسسات الدولة لما لهذا البناء من آثار سلبية على وجود هذا التيار أو على مشروعه السياسي الذي يريد العودة بالعراق إلى نموذج حكم طالبان. والى هذا الاتجاه وبالتعاون مع الاتجاه الأول وربما الاتجاه الثاني تنسب عدداً كبيراً من جرائم الخطف والسلب والاغتصاب، وقد يستغرب البعض أن هذه المنظمات الدموية تنطلق في خطابها من قراءة معينة للإسلام، فكيف تلجأ إلى مثل هذه الأساليب التي تعد من بديهيات التحريم الإسلامي؟.

أن هذا التيار- وبفضل تنظير أنصاف العلماء- له وجد في ممارسات أسلافه حجة يقوم عليها في تبرير هذه الأعمال. أن طبيعة العلاقة مع الشيعة في المستقبل يحكمها عاملان رئيسيان هما:

1. طبيعة وحجم المساحة التي يمثلها التيار التكفيري الدموي في المجتمع السني، إذ كلما ازدادت هذه المساحة كلما ازدادت مساحة التوتر وربما الاقتتال الداخلي. أن عوامل الضبط التي تحكم حركة الشيعة قد تضعف أمام موجة القتل الجماعي والتشريد مما ينذر باحتمال نفاذ صبرهم، وعندما يتحول البلد إلى ساحة للقتال الأهلي والطائفي بحيث قد يدفع فيما بعد- وبسبب سياسة التهجير القسري إلى تخندق كل طائفة في منطقة معينة، وهكذا فالعلاقة تتناسب في جانبها السلبي طردياً مع مساحة تأثير هذا التيار وإيجابياً تتناسب عكسياً مع هذه المساحة.

2. طبيعة وشكل النظام السياسي، فعندما يدرك السنة أن هذا النظام اصبح حقيقة واقعة، ويصعب تغييره بالقوة أو بالممارسات السياسية الضاغطة، عندها تعود العلاقة الاجتماعية وربما التفاعل الاقتصادي، دون إغفال الآثار السلبية التي تركتها مدة التوتر في العلاقة بين الجانبين. وإذا ما أدرك السنة أيضاً أن مصلحتهم تتمثل في التخلي عن الارتباط مع الأطراف الإقليمية، أو الائتمار بأوامر جهات حزبية معينة، والعمل على ترسيخ القناعة لدى السنة، بأن استقرارهم يتحقق من خلال المشاركة مع الشيعة والأكراد في بناء عراق ديمقراطي، يشعر الجميع فيه بأنهم متساوون في الحقوق والواجبات، والتخلي عن صيغة الهيمنة السياسية، وتجاوز حالة الحنين إلى الماضي وفصم عرى الصداقة مع البعثيين والتكفيريين، عندها يمكن لهذه العلاقة أن تسهم في بناء وطن متسالم ومزدهر.

الصفحة الرئيسية | نشاطات المركز | مقالات | عن المركز | بحوث مستقبلية | إصدارات المركز | الهيئة الإستشارية | منار المستقبل | إتصل بنا

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

 جميع الحقوق محفوظة لمركز المستقبل للدراسات والبحوث / 1426هـ / 2005م

info@mcsr.net