جغرافية المصالحة الوطنية

Geography of reconciliation

 المصالحة الوطنية أحد الروافع التي يمكن أن تتسبب, إذا أمكن إدارتها بفاعليه, في أحداث حراك سياسي واقتصادي واجتماعي, وبالتالي فهي تصب في إنهاض الوضع الأمني إلى حد التغيير, وما يرتبط بهذا كله من توفير الخدمات ,في الوسط العراقي بالذات, توفير المحروقات وفي مقدمتها البنزين الذي تحول الى أقسى الاخفاقات التي قد تحرك الشارع العراقي.

وبذلك دخلت الخدمات وتوفير المحروقات والتعامل مع البطالة والتهجير وما يجري بالقتل على الهوية والتي يمكن أن ترتقي الى مستوى تأثير الدين/التدين في الشارع العراقي والذي سينعكس على أمن المواطن العادي بل وأمانة وهي حالة مؤلمة نتعرض لها. وبهذا الشكل من القسوة,منذ انهيار النظام الاستبدادي السابق واصبح الاحتلال هو المتهم الأول.

وهذا قد ينعكس على توقع الناس وفي مناطق معينة مثل ديالى حيث يشك في أن تعمل جامعتها وكلياتها في العام القادم في الوقت الذي حدد يومان للعمل فقط في مدينة الموصل مع انفجارات مؤلمة في النجف الاشرف والكوفة وواسط والبصرة والعمارة ومناطق معينة من بغداد مثل مدينة الصدر والكرادة والشعلة.

فهل أن هذا خلط مقصود للأوراق الذي يعمل بالضد من المصالحة وبالتالي وضع العصي في دواليب العملية السياسية مع حقن هذا كله بجرعة طائفية بغيضة.

ورغم كل هذه الصعوبات التي قد تفوق تحمل الشارع السياسي فأن المصالحة ورغم بطئها والتضخيم الإعلامي لها لا بد أن تسير في مثل هذا الجو الدموي العاصف ولكن من أين يمكن أن تبدأ المصالحة كي تكون أكثر فاعلية,  أي التعرف على جغرافية المصالحة وذلك وفق الاحتمالات التالية:

1. أن تنطلق من الوسط وبغداد ومحيطها بالذات ولكن ما حدث ومنذ سقوط النظام أن تم أضعاف الوسط في مقابل تقوية الأطراف في الشمال والجنوب والشرق والغرب. وأضعاف وسط العراق والعاصمة بغداد بالذات كأنة أحد  النواتج التغيير مما اتفق وخط الاحتلال وذلك لتقارب الأطياف العراقية: شيعية وسنية وكردية وتركمانية ومسيحية حيث الجامعات والأسواق ومنظمات النفع العام والتي تقترب في فعلها إلى مستوى المجتمع المدني (civil society) لذا فأن أسلوب فرق تسد (Divide, Rule) يكون باهتاً وغير فعال قياساً بالتفاوتات بين الأطياف العراقية خارج دائرة الوسط والتي جرى إهمالها وتهميشها عن قصد وبشكل ممنهج في ظل النظام السابق المستبد.

مما نزع الثقة والثقة بالذات بين هذه الأطراف وهذا ما يحول دون نزع سلاح الميليشيات واختراق الأجهزة الأمنية والعسكرية,ويزيد من قلق واحتقان الشارع العراقي الأكثر حساسية وفاعلية في بغداد بذات.

في الوقت الذي يتردد فيه.في الأوساط الصحفية والإعلامية, بل وحتى الثقافية أن النخب ولا سيما السياسية منها, هي التي تكرس مثل هذه الشقاقات والوصول بها الى حد الاحتراب ؛وذلك لتكريس بقائها ممسكة بالسلطة وسالبة للثروة فقد بلغ الفساد وهو السطو المنظم وبالقوة على المال العام مستوى فاق كل التصورات إذ لابد أن يخصص 40% من النفقات الموجهة للأعمار والتنمية لتأمين إنفاق ممكن لهذه التخصيصات.

فهل أن النخب, والسياسية منها بالذات,هي المستفيدة من هذا الانفلات الأمني والتعدي على المال العام؟وهي أسئلة تناقش في الصحافة ووسائل الإعلام والشبكات الفضائية دون أن يتم التوصل الى فهم يشخص الحالة ومن ثم العمل على التعامل معها بالشكل الذي يخلص المواطن العراقي العادي من كل هذه المنغصات والانفجارات والقتل على الهوية أو بدونها والذي حلم بالديمقراطية بعد أن تخلص من العهد الاستبدادي ولكنه سقط في عهد احتلالي وتقارب لدى المثقف مفهوما الاستبداد والاستعباد.

وما زاد الأمور تعقيداً هو أن اكثر أفراد النخبة السياسية وحتى الذين تسلموا مراكزهم الحكومية والوظيفية إنما هم وفي افضل الحالات رجال سياسة (مصالح وفوائد) وليسوا رجال دولة ,عاملين على النظر الى الحكومة من خلال مصالحهم وليس العكس,وهو النظر من خلال الحكومة الى ما يمكن أن يحقق لهم من مصالح وفوائد وذلك بعد أن تكون المؤسسات قد ثبتت ثم بنيت. فما زلنا نفكر بالأشخاص وليس بما يمكن أن يتحملوه من مسؤوليات دون أن ننفي أنه لدى بعضهم قدراً من الإخلاص الذي قد تصعب ترجمته في مثل هذه الظروف الصعبة التي نمر بها.

فهل يمكن إحياء الوسط وإعادة بناء ما هدمته التجارب المرة والخاطئة التي مرت بها نُخبنا الفاعلة منذ سقوط النظام الاستبدادي السابق؟

إن الرهان على الوسط  يبقى أحد أهم فواعل المصالحة لأن اللحمة الاجتماعية في الوسط ما زالت تتمتع بالتماسك رغم ما ورثته من النظام الاستبدادي السابق وتحملته من إضعاف الاحتلال لها فما زالت العراقية وحتى في المناطق الساخنة هي الخلاص من الفوضى والموت والاحتراب.

وهناك نقطة في غاية الأهمية هي أن رجل الدولة على خلاف رجل السياسة لا يخضع للطائفية وهو على مبعدة من تأثير جيران العراق الذين يحتفظون بأجندات خاصة بهم دون أن نحول هذا الى خوف وتسليم بقدرات هذه الأجندات على أن تقلب الوضع الداخلي العراقي وتجيره لمصالح الجيران.

لقد مر العراق وفي عهوده الملكية والجمهورية بصفوات (نخب) استطاعت بالفعل أن تضع مصلحة العراق في المقدمة دون دخول في مغامرات. والتف حول هذه النخب التي عملت بالفعل على بناء الدولة العديد من رجال الدين وذوي الحكمة والرشاد الذي مثلوا مرجيعيات فاعلة كانت لها الكلمة النافذة قبل أن يتحول العراق الى التسلط والديكتاتورية والتفرد بالرأي وفرضه.

مع إشاعة لثقافة السلطة وتأجيج للطائفية والعنصرية ونشر لثقافة الخوف والجوع مما دفع العديد من العراقيين الى العيش في المنافي وأنسحب هذا على عهد الاحتلال بحيث انتشر العديد من مثقفينا ومن يمكن أن يشكلوا الطبقة التكنوقراطية التي تعني البديل لنخب اللا فعل في عمان (الأردن) أو لندن أو الإمارات حيث يتم الإفتاء وتصدر الأفكار (الحلول) من مثل هذه المناطق, حجتهم هي خوفهم من أن يظلوا في الداخل.

فهل أن مثل هذا الخوف مبرر؟ قد يكون مبرراً في جانب منه إذا تعرض الإنسان للتهديد والوعيد وأصبحت حياته في كفة القلق والموت, ولكن هذا لا يعني أن يترك بلده/ عراقه لأن التماس اليومي بالمشكلات وبكل ما فيها من موت ومنغصات هي الذي يقدح أوار الفكر في بلد بات بحاجه الى من يضمد جراحه لا أن يطل علية بالحلول في الخارج.

2. الحل يأتي من الشمال (كردستان) ومثل هذا الحل ممكن إذا أمكن إعادة الثقة بين مكونات الشعب العراقي قبل كياناته أي أن التصالح الاجتماعي قبل التصالح السياسي. لقد قاسى الشمال (كردستان) ولكن هذا لا يقتصر عليهم فقد كان النظام الاستبدادي (عادلاً) في توزيع مظالمه التي لحقت بالشيعة قي الوسط والجنوب وبالسنة في نفس هذه المناطق ونظره الى الخليج إنما تبرهن ما وصلنا إليه؛إذ يعتبر الخليج العربي الجنة التي يمكن أن يهرب أليها العراقي بعد أن كان الخليجي يحلم بالعراق ومائه وخيراته والمهم أن الشمال (كردستان) إذا أراد أن يكون فاعلاً, فعليه أن يعمق دوره في الحل متخطياً دوره في المشكلة.

3. الحل يأتي من الوسط (مرجعيات) والجنوب (مقلدين).والمرجعيات في الأماكن المقدسة والأوساط السياسية (علماء بغداد ومفكروها) هم المظلة التي تقي العراق من وهج الصيف ومطر الشتاء ولكن بناء الدولة له شروطه واشتراطاته ويتميز العراق وأهله بان هناك تقسيم عمل ناجح بين الدولة والدين وهي معادلة لا بد من إحيائها وخاصة ونحن نمر بتجارب يتحمل رجال الدولة وسياسيوها الأخطاء لذا فان الحلول إنما تكون متوازية وليست متقاطعة. وهناك جيل جديد بدأ ينمو ويتكامل في الضواحي (ضواحي بغداد) بل وحتى في أماكن وسط العراق وجنوبه وشرقه وغربه لا بد من أن يكون لهذا الجيل الذي درس في الجامعات العراقية والأجنبية قول وفعل وتأثير مع التقليل من الوصاية عليه. هذه الحظوظ لأجيال لها رؤيتها إنما تغني التجربة وتقدم الجديد والمفيد فأنها تستطيع أن تؤمن إيصال التجربة الموروثة في الوقت الذي تطرح فيه التجربة المكتسبة.

والتجربة الموروثة ثرية وأصيلة ولكنها بحاجة الى أن تفسر حاضراً وتستشرف مستقبلاً. هذه هي المناطق الجغرافية التي تنطلق منها المصالحة دون خوف أو مصلحة وذلك لإنقاذ العراق من المحنة التي يمر بها ووفق ما يستطيع أن يرفد به كل صقع جغرافي.

وهناك البعد العملي للتعرف على مدى نجاعة هذه الحلول وأما منا تجارب العالم وبالأخص عالم الجنوب والوسط العربي والشرقي والإسلامي والعالمثالثي ويمكن أن نبدأ بالاقتصاد (التنمية) والتنمية المستدامة ونحاول أن نوازن بين مناطق العراق المختلفة صحة وتعليماً والقضاء أو الحد من البطالة التي وصلت الى حدود مخفية قد تصل في بعض التقديرات المتشائمة الى 40%.

مقابل هذا التحدي قي العقبات وهذا الموت البغيض يمكن أن تتحرك عشائرنا ومكوناتنا المحلية وقد نطمح لبناء المجتمع المدني الذي تجتمع عنده كل مناطق الفعل في العراق.

الصفحة الرئيسية | نشاطات المركز | مقالات | عن المركز | بحوث مستقبلية | إصدارات المركز | الهيئة الإستشارية | منار المستقبل | إتصل بنا

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

 جميع الحقوق محفوظة لمركز المستقبل للدراسات والبحوث / 1426هـ / 2005م

info@mcsr.net